فصل: الفصل السابع من الباب الثاني من المقالة الرابعة في مقاصد المكاتبات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الفصل السابع من الباب الثاني من المقالة الرابعة في مقاصد المكاتبات:

وهي الأمور التي تكتب المكاتبات بسببها وهي الجزء الأعظم من صناعة الترسل وعليها مدار الكتابة إذ الولايات من مقاصد المكاتبات وهي أهم ما تضع به الكاتب وألزم ما مهر فيه وهي قسمان:

.القسم الأول: مقاصد المكاتبات السلطانيات:

وهي على نوعين:

.النوع الأول: ما يكتب عن الخلفاء والملوك:

وهو على أربعة أضراب:

.الضرب الأول: ما يكتب عن الخلفاء والملوك ومن ضاهاهم مما هو مستعمل الآن مما كان عليه الحال في الزمن القديم...:

مما يقل ويكثر تداولها، ويتكرر تداوله في الكتابة وسائر المكاتبات في الحوادث المألوفة التي يكثر تداولها وتتكرر الكتابة فيها بتكرر وقائعها وما رسم الكتابة به باق إلى زماننا وإن تغير مصطلح الأبتداء والخطاب وغيرهما من رسوم المكاتبات. وهو على أصناف:
الصنف الأول: الكتب بانتقال الخلافة إلى الخليفة:
قال في مواد البيان: جرت العادة أن تنفذ الكتب إلى ولاة الأعمال في مثل هذه الحالة، متضمنة ما جرى عليه الأمر بالحضرة، من انقياد الأولياء والرعايا إلى الطاعة، ودخولهم في البيعة بصدور منشرحة، وحض من الأعمال من رجال السلطان ورعيته على الدخول فيما دخل فيه أمثالهم، وإعطاء الرعايا على لك صفقة أيمانهم.
وقد كان الرسم فيها أن يصدر بحمد الله تعالى على عوارفه التي لم تزل تكشف الخطب، وترأب الشعب، وتدفع المهم، وترفع الملم، وتجير الوهن، وتسبغ الأمن، والصلاة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر خصائصه ومناقبه، وتشريف الله تعالى له بإقرار الإقامة في أقاربه، وتخصصها ببني عمه الذين هم أحق الناس به، وما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم من طلب مودته من الأمة بقوله جل من قائل: قل لا أسألكم عليه أجراً إلا مودة في القربى، وما أشار إليه صلى الله عليه وسلم من بقاء الخلافة فيهم بقوله لعمه العباس: ألا أبشركم يا عم، بي ختمت النبوة وبولدك تختم الخلافة: وما يجري مجرى ذلك. ثم يتلو ذلك بالإفصاح عن شرف الخلافة وفضلها، والإبانة عن رفيع مكانها ومحلها، وأنها ظل الله الممدود، وحبله المشدود، ومساك الدين ونظامه، وملاك الحق وقوامه، وامتنان الله تعالى على العباد بأن جعل فيهم أئمة يقسطون العدل عليهم، ويقيمون الحدود فيهم، ويقيمون أديانهم، ويهذبون إيمانهم، ويرهفون بصائرهم، ويهدون حائرهم، ويكفون ظلومهم، وينصفون مظلومهم، ويجمعون كلمتهم، ويحمون ذمارهم، ويحيطون ديارهم، وما يجري مجرى ذلك. ثم يذكر ما أوجبه الله تعالى على أهل الإسلام للإمام من الطاعة محسن التباعة أيام حياته، والانقياد لأمره في طاعة من ينص عليه في القيام مقامه بعد وفاته، ليتصل حبل الإمامة بينهم، ويمتد ظل الخلافة عليهم، فإن كان قد تلقى الخلافة بعهده عن خليفة قد مات، من أب أو غيره، أتى بمقدمة ذكر الموت، وأن الله تعالى سوى فيه بين بريته وجعل في طريقه إلى رسوله أسوة لخليقته، وتفر بالبقاء، وامتنع عن الفناء، ثم يقال: وإن الله تعالى لما اختار لعبده ووليه فلان النقلة إلى دار كرامته، والحلول بفناء طاعته، وأعانه على سياسة بريته، وأنهضه بما حمله، وأيده فيما كفله، من الذب عن المسلمين، والمراعاة في الدين، والعمل بكتابه وسنته في القول والفعل، واستشعار خيفته ومراقبته في السر والجهر، وما يليق بهذا استخلص عبده ووليه فلاناً الإمام الفلاني لخلافته، وأهمى سماء الرحمة بغمامته، وأحل عزيز النصر بولايته، وألقى في تنفيس رأيه النص عليه، والتفويض إليه، لما علم سبحانه في ذلك من شمول المصلحة للعباد، وعموم الأمنة للبلاد، فأمضى، قدس الله روحه وما ألهمه، وكمله قبل خروجه من ديار الدنيا وتممه، عالماً بفصل اختياره، وإنه يمل به الهوى في إثارة، فقام أمير المؤمنين الإمام الفلاني مقامه، وحفظ نظامه، وسد ثلمته، وعفى رزيته، وأقر الله تعالى الإمامة به في نصابها ومقرها، وزاد باستخلافه في صيت الخلافة وقدرها.
وأمير المؤمنين يسأل الله تعالى أن يخص وليه السعيد بقربه بأفضل صلواته، وأشرف تحياته، ويحسن جزاءه في سعيه في صلاح العباد، وسداد البلاد، وأن يلهم أمير المؤمنين الصبر على تجرع الرزية فيه ويجزيه أفضل ما جزى به صابراً محتسباً، وأن يجبر كسره في فقده، ويوفقه لجميل العزاء من بعده، ويسدده في مصادره وموارده، ويهديه لما يرضيه في جميع مقاصده، ويعينه على تأليف الأهواء، وجمع الآراء، ونظم الشمل، وكف القتال، وإرخاء الظل.
وكتاب أمير المؤمنين هذا إليك وقد اجتمع من بحضرته، من ذوي جهته وأمراء دولته، وكافة جنده وجماعة حوزته على بيعته، وإعطائه صفقة أيمانهم على طاعته ومشايعته، عن صدور مخلصة نقية، وسرائر صافية سليمة، وعقائد مشتملة على الوفاء بما عقدوا عليه، وانقادوا مختارين إليه، وشملتهم بذلك الرحمة، وضفت عليهم النعمة، فما برحوا الرزية، حتى فرحوا بالعطية، ولا وجموا للمصيبة، حتى بسموا للرغيبة، ولا اظلموا لفقد الماضي، حتى أضاء الوجود بالآتي.
فلله الحمد على هذه النعمة التي جبرت الوهن، وحققت في فضله المن، حمداً يستدر اختلاف فضله، ويستدعي سابغ طوله، وصلى الله على محمد وآله، وأمير المؤمنين يراك من أهل مخالصته، والمتحققين بطاعته، وهو يأمرك أن تأخذ البيعة له على نفسك، وعلى جميع أوليائه المقيمين قبلك، وكافة رعاياه الذين هم في عملك، وتشعرهم بما عنده للمسارعين لطاعته، المبادرين إلى اتباعه، من تيسير الإنصاف والعدل، وإضافة الإحسان والفضل، وما لمن نكب عن الطريقة المثلى، وحاد عن الأولى، من الكف الرادع، والأدب الوازع، ويتوسع في هذا المعنى توسعاً يشرح صدور أهل السلامة، المستمرين على نهج الاستقامة، ويردع أهل الفساد، ويغض من نواظر ذوي العناد، ويحلي الكتاب بآيات من القرآن الكريم تحسن استعارتها في باب العزاء، ويليق ذكرها في باب الإشادة بالخلافة والخلفاء. فإن كان الكتاب مما يقرأ بالحضرة، قال في موضع وكتاب أمير المؤمنين إليك: وأنتم معاشر أقارب أمير المؤمنين، من إخوته وبني عمه وخواص الدولة وأمرائها وأجنادها وكتابها وقضائها وكافة رعيتها، ومن اشتمل عليه ظل مملكتها، أحق من حافظ على عوارف أمير المؤمنين واعتد بلطائفه، وقام بشكر نعمته، وسارع إلى اتباعه واعتصم بحبل دعوته، فاجتمعوا على متابعته، وإعطائه صفقة أيمانكم على مبايعته، ليجمع الله على التأليف كلمتكم، ويحمي بالتأزر بيضتكم، وينبع ذلك من وعد أهل الطاعة بما يضاعف جدودهم، ومن وعيد أهل المعصية بما يصفر خدودهم، على نسف ما سبق في الترتيب.
وهذه نسخة كتاب في المعنى، كتب به عن الآمر بأحكام الله تعالى عند استقراره في الخلافة بعد أبيه المستعلي بالله، والدولة مشتملة على وزير، من إنشاء ابن الصيرفي، وهي: الحمد لله المتوحد بالبقاء، القاضي على عباده بالفناء، الذي تمجد بالأزلة والقدم، وتفرد بالوجود وتنزه عن العدم، وجعل الموت حتماً مقضياً على جميع الأمم.
يحمده أمير المؤمنين على ما خصه به من الإقامة التي قمصه سربالها، وورثه فخرها وجمالها، حمد شاكر على جزيل العطية، صابر على جليل الرزية، مسلم إليه في الحكم والقضية، ويسأله أن يصلي على جده محمد الذي ثبتت حجته، ووضحت محجته، وعلت كلمته، وأنافت على درج الأنبياء درجته، صلى الله عليه وعلى أخيه وابن عمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي جعل الله الإمامة كلمة في عقبه باقية، وحبه جنة يوم الفزع الأكبر واقية، وعلى الأئمة من ذريتهما الطاهرين، صلاة دائمة إلى يوم الدين.
وإن الإمام المستعلي بالله أمير المؤمنين قدس الله روحه وصلى عليه، كان من أوليائه الذين اصطفاهم لخلافته في الأرض، وجعل إليهم أزمة البسط والقبض، وقام من أوق الإمامة، ولم يزل عاملاً بمرضاة الله إلى أن نقله إلى دار المقامة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. رضاً بقضائه، وصبراً على بلائه، وإجزال حظه عليه من الأجر والثواب، وإمداده في خلافته بمواد الإرشاد والصواب، بكرمه.
وكتاب أمير المؤمنين يوم كذا من الشهر الفلاني من سنة كذا، بعد أم جلس للحاضرين بحضرته من الأمراء، عمومته وأوليائه وخدم دولته، وسائر أجناده، وعبيد مملكته وعامة شيعته، وأصناف رعيته، وأنوار الخلافة عليه مشرقة، وأغصان الإمامة مثمرة مورقة، والسيد الأجل الأفضل الذي أمده الله في نصرة الدولة العلوية بالتأييد والإظهار، وأبان به برهان الإمامة الآمرية فوضحت أنوارها للبصائر والأبصار، وشهر له من المناقب ما سار مسير الشمس في جميع الأقطار، يتولى الأمر بحضرته تولي الكافل الزعيم، ويباشر النظر في بيعته مباشرة القسيم الحميم، والناس داخلون في البيعة بانشراح صدور، وإظهار ابتهاج وسرور، يعطون صفقة أيمانهم، ويعلمون ما لهم من الحظ في طاعة إمام زمانهم، قد تحققوا شمول السعد وعموم الرشاد، وتيقنوا الخيرة لهم في العاجلة والمعاد، وأمير المؤمنين يعزيك ومن قبلك من أولياء دولته، وسائر رعيته، عن المعصية في الإمام المستعلي بالله صلى الله عليه التي قطعت من النفوس أملها، وأسكنت الألباب جزعاً وولهاً، ويهنيك وإياهم دولته التي تهلل لها وجه الزمان، واستهلت بها سحائب الفضل والإحسان. وأمير المؤمنين يحمد الله الذي أقر الحق في منصبه، وأفرده بما كان والده الإمام المستعلي بالله أفرد به.
فاعلم ما أعلمك أمير المؤمنين من هذا الخطب الجسيم، والنبأ العظيم، واشكر الله على ما جدده لك ولكافة المسلمين، من نعمة بإمامة أمير المؤمنين، التي أوفت بإساءة الزمان وجنايته وشفت من داء كلمه ونكايته، وتقدم إلى الدعاء قبلك بأخذ البيعة على نفسك وعلى كافة من في ولايتك، واستحمد إلى أمير المؤمنين أنت وهم بالإخلاص في طاعته، والاجتهاد في مناصحته، والتمسك بعصم مشايعه، لتنالوا في العاجلة حظاً جسيماً، وتحرزاً في الآجلة أجراً كريماً: ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً.
وطالع بالكائن منك بعد قراءة كتاب أمير المؤمنين على الحاضرين قبلك، وإذاعته في الواردين عليك والمستوطنين عملك، ليحمدوا الله على ما أنالهم بخلافة أمير المؤمنين من جميل الصنع العائد على العباد، وصلاح البلاد، وكتب في اليوم المذكور.
وهذه نسخة كتاب من الآمر بأحكام الله المقدم ذكره، كتب إلى الولاة الأطراف بعد قراءة عهده، مهنئاً بخلافته، وتجيد ولايته، من إنشاء ابن الصيرفي، أيضاً، وهي: أما بعد فالحمد لله مولي المنائح من نعمه، ومجزل العطايا من مواهبه وقسمه، ومعود الصنع الجميل من لطفه وكرمه، الذي له الحكم الظاهر عدله، ولديه الطول الفائض فضله، وعنده مفاتح الغيب وإليه يرجع الأمر كله.
يحمده أمير المؤمنين على ما أفرده به من سني المواهب، ونظمه له من عقود المناقب، ونقله إليه من تراث آبائه الكرام الذين جلا ضياؤهم ظلام الغياهب، وتزينت بهم الأرض تزين السماء الدنيا بزينة الكواكب، ويسأله أن يصلي على جده محمد الذي نشر الله به الرحمة، وكشف الغمة وأنقذ الأمة، صلى الله عليه وعلى أخيه وابن عمه علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، والمذكور في زبر الأولين، وعلى الصفوة من ذريتهما الهداة الراشدين، صلاة باقية إلى يوم الدين.
وإن النعم تتفاضل أقدارها بحسب مواقعها، وتتفاوت أخطارها بقدر مواضعها، ومن ألطفها مكاناً، وأشرفها محلاً وشاناً، وأولاها بأن تستنطق به الأقلام، وأحقها بأن يتناقل ذكرها الخاص والعام، ما خص الله به أمير المؤمنين من المنن الظاهرة، وتولاه من المنح المتظاهرة، وأصاره إليه من الخلافة في أرضه، واستخلفه عليه من القيام بسنن دينه وفرضه، واسترعاه إياه من حياطة بلاده، وأوجبه من طاعته على كافة خلقه وعباده، وذخره لدولته من كفيله وخليله، ومقيم أدلة حقه وموضح سبيله، السيد الأجل الأفضل الذي ارتضاه الله للذب عن الإسلام، وانتضاه لنصرة إمام بعد إمام، وشهر مناقبه في كل موقف ومقام، وخصه بفضائل لم تر مجتمعة لملك من ملوك الإسلام، لا جرم أن أمير المؤمنين قد أحله منه محل الروح من الجسد، والوالد من الولد، وفوض الأمور إليه تفويض معول على يمن نقيبته معتمد، مبالغ في حسن الاختيار للأمة مجتهد، ويجازيه عن تشييد مملكته أحسن ما جرى به مخلصاً جمع في الإيمان بين القول والعمل، بكرمه.
ولما وقف أمير المؤمنين بما طالعه به السيد الأجل الأفضل عند مثوله بحضرته وإنهائه الأمر دولته وأحوال مملكته، على أمرك الذي استحمده في الخدمة، واستحقت به إضافة الإحسان وإسباغ النعمة، وأن لك في الدولتين المستنصرية والمستعلية من الخدمة المشكورة، والمساعي المبرورة، ما يدل على مناصحتك وإخلاصك، ويبعث على اصطناعك واستخلاصك، أمر بكتب هذا السجل لك مؤكداً لأواخيك ومعرباً عن رأيه الجميل فيك، مجدداً من ولايتك، ومجرباً لك فيها على مستمر رسمك ومستقر عادتك. فقابل نعمة أمير المؤمنين من الإخلاص في طاعته بما يربطها، ووفها من حق الاجتهاد ما يقرها عندك ويثبطها، واجعل تقوى الله تعالى عمادك، واطو عليها طويتك واعتقادك، وكمن في نفوس الأولياء جميل رأي أمير المؤمنين فيهم، وإحماده لمواقفهم في الخدمة ومساعيهم، وحقق عند كافة المستقرين لديك، والواردين عليك، ما يكنفون بع من الأمر الشامل، ويغمرون به من حسن النظر المتواصل، واجر على العادة المألوفة في إفاضة العدل والإنصاف وتنكب سبيل الجور والإجحاف، ومهد السبيل قبلك، واحم من أسباب الفساد ولايتك وعملك، واخصص متولي الحكم والدعوة الهادية- ثبتها الله تعالى- بالإعزاز والرعاية، ووفر حظهم من الملاحظة والعناية، وخذ المستخدم في الخطبة العلوية بإقامتها في أوقاتها، على أفضل قوانينها وواجباتها، معلناً فيها بذكر أمير المؤمنين الذي يتوج فروق المنابر، ويشنف أسماع البوادي والحواضر، وتوفر على ما ثمر الأموال وأنمائها، وغزرها ورخاها، وقضى بوفورها ومواصلة حمولها، وانظر في أمر الرجال المستخدمين معك نظراً يؤدي إلى مصلحتهم، فاعلم هذا من أمير المؤمنين، واغتبط بما أصاره الله إليه اغتباط أمثالك من المخلصين، واعتقد طاعته اعتقاد من يجاريه من أهل اليقين، واعمل بوصاياه ومراشده تحظ في الدنيا والدين، وطالع بالكائن منك بعد قراءة هذا السجل على كافة الناس أجمعين، وكتب كذا وكذا.
والعم أن العادة جارية بينهم أنه إذا كتب كتاب عن خليفة بانتقال الخلافة إليه، يكتب ملطف عن وزير، يلف كتاب الخليفة ضمنه، ويوجه به إلى حيث المقصد.
وهذه نسخة ملطف في هذا المعنى، كتب به عن وزير في الدولة الفاطمية، ليلف كتاب الخليفة طيه وهو: ينطوي هذا الأمر الوارد على الأمير على كتاب مولانا الإمام الفلاني لدين الله، أمير المؤمنين، صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين، وأبنائه الأكرمين، أو: أبنائه المنتظرين، إن كان لا ولد له، بما اصاره إليه من شرف الإمامة، وبوأه إياه من مقام العظمة والكرامة، إثر انتقال الإمام فلان أمير المؤمنين، - قدس الله روحه- إلى جوار ربه. فاعتمد العمل بمضمونه في أخذ البيعة على نفسك ومن يليك وتلاوته إلى رؤوس الأشهاد، وإذاعة مكنونه في الحاضر والباد، على رسم المعتاد، فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى.
قلت: وهذا المعنى في الكتابة بانتقال الخلافة إلى الخليفة جار في زماننا بانتقال السلطنة إلى السلطان، ويعبر عن ذلك بجلوسه على تخت الملك، والأمر على ما تقدم في الخلافة من العتزية بالماضي، والتهنئة بالمستقر، ونحو ذلك مما يجري مجراه.
وهذه النسخة مكاتبة بالبشارة بجلوس الملك صالح ابن الملك الناصر محمد قلاوون تحت التخت، في شهر رجب الفرد سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة، وبعد خلع الملك الناصر حسن، وصورتها بعد الصدر والألقاب: وأورد عليه من البشائر أسنى البشر، وأسمعه من التهاني ما انتشى حديثه بين البرايا وانتشر، وحفظ عليه وعلى الأمة ما أراد لهم من الخير وولى عليهم خيارهم وجعل مليكهم صالح البشر.
صدرت هذه المكاتبة إلى فلان وبصريها مقدماً بالظفر، وذكرها قد ملأ الأقطار فجمع عليه كل قلب كان قد نفر، تهتدي إليه سلاماً عن وجه الشكر سفر، وثناء يحصل منه على النصيب الأوفر، وتوضح لعلمه أن الجنايات العالية الأمراء الأكابر، أمراء الدولة الشريفة، ضاعف الله نعمتهم، كانوا قد عظموا أخانا الناصر، وحكموه، ومشوا إلى خدمته على أحسن سنن، وما أبقوا في خدمته ممكناً من التعظيم، والإجلال والتحكيم، وامتثال الأمر في كل جليل وحقير، فلم يرع لهم ذلك، ولا ألتفت إلى ما لهم عليه من حقوق الخدمة، واتفق مع الصبيان، وأراد القبض على الأمراء، وإمساك الجنايات العالية الأمراء الأكابر والإيقاع بهم. فلما تحققوا من ذلك اجتمعت الأمراء، واتفقت الكلمة على خلعه من الملك الشريف وإقامتنا، فخلع المشار إليه، وكان جلوسنا على تخت الملك الشريف وكرسي السلطنة المعظمة في يوم الاثنين المبارك، بحضور الإمام المعتضد بالله أمير المؤمنين أبي الفتح أبي بكر، ابن الإمام المرحوم أمير المؤمنين أبي الربيع سليمان المستكفي بالله، ومبايعته لنا، وحضور المجالس العالية قضاة القضاة بالأبواب الشريفة، أعز الله تعالى أحكامهم، وحلف لنا أمراء الدولة الشريفة على جاري العادة في ذلك، وضربت عند ذلك البشائر، وشهد هذا الهناء كل باد وحاضر، وتشنفت الأسماع وقرت الأعين واستقرت الخواطر، وابتهجت بذلك الأمم، وتباشرت بهذا السعد الذي كتب لنا من القدم، وأصبح كل من أنصاره دولتنا الشريفة مبتهلاً بالدعاء مبتهجاً.
فليأخذ المقر حظه من هذه التهنئة، وليذع خبرها لتكون المسار معيدة ومبدية، ويتحقق ما له عندنا من المكانة، والمحل الذي زان بالإقبال الشريف زمانه ويتقدم أمره الكريم بتهنئة المجالس العالية والسامية ومجالس الأمراء بالمملكة الفلانية، ويتقدم أيضاً بضرب البشائر بالزينة على العادة.
وقد تجهز إلى الجناب العالي نسخة يمين شريفة يحلف عليها، ويكتب خطه، ويجهزها إلينا صحبة المجلس السامي، الأمير، الأجل، الكبير، العضد، الذخري، النصيري، الأوحدي، عضد الملوك والسلاطين، يلبغا الحموي الصالحي، أدام الله علوه، المتوجه بهذا المثال الشريف، وقد جهزنا نسخة يمين شريفة ليحلف عليها لنا الأمراء بطرابلس ويكتبوا خطوطهم ويجهزها إلينا على العادة صحبة المشار إليه.
وقد جهزنا للجناب العالي صحبة المشار إليه تشريفاً شريفاً كاملاً، فيتقدم الجناب العالي بتسلمه منه ولبسه، ويتحقق ما له عندنا من المكانة والمنزلة، ويعيد الأمير سيف الدين يلبغا المشار إليه إلى الباب الشريف، ويحيط علمه بذلك.
الصنف الثاني من الكتب السلطانية: الكتب في الدعاء إلى الدين:
وهو من أهم المهمات، قال في مواد البيان: أشرفه ما ينشئه الكاتب الدعاء إلى دين الإسلام الذي أظهره الله تعالى عىل كل دين، وأعزه على كره المشركين، واستجرار مخالفيه إليه، واجتذاب الخارجين عن دائرته إلى الدخول فيه، عملاً بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده، لأنه قوام الملك ونظام السلطان اللذان لا يصحان إلا به.
قال: والكاتب يحتاج في إنشاء هذه الكتب إلى علم التوحيد وبراهينه، وشرع الرسول صلى الله عليه وسلم خاصه وعامه، ومعجزاته، وآيات نبوته، ليتوسع في الإبانة من ظهور حجته، ووضوح محجته.
ثم قال: والرسم فيها أن تفتتح بحمد الله الذي اختار دين الإسلام فأعلاه وأظهره، وقدسه وطهره، وجعله سبيلاً إلى رضاه وكرامته، وطريقاً إلى الزلفى في جنته، وشفيعاً لا يقبل عمل عامل إلا به، وباباً لا يصل واصل إلا منه فلا يغفر السيئات إلا لمن اعتصم بحبله، ولا تتقبل الحسنات إلا من أهله، وشكره تعالى على الهداية إليه، والتوفيق عليه، وذيادته عن مجاهل الضلالة بما أوضحه من برهانه، ونوره من تبيانه، وتمجيده من تعظيم آياته، وباهر معجزاته، وحكيم صنعته وبديع فطرته، وتنزيهه عما لا يليق بسلطانه، ولا يجوز إضافته إلى عظيم شانه، وتسبيحه عما يصفه به الملحدون، ويختلقه الجاحدون، والصلاة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم والإفصاح عن دلائل نبوته، وبراهين رسالته، وما خصه الله تعالى به من إعلاء وإمداده بالمعجزات الباهرة، والآيات الظاهرة.
ثم يتبع ذلك بالدعاء إلى الدين والحض عليه، وإيضاح ما في التمسك به من الرشاد في داري المبدأ والمعاد، والتبشير بما وعد الله به المستجيبين له، والداخلين فيه، ومن تمحيض السيئات، ومضاعفة الحسنات، وعز الدنيا وفوز الآخرة، والإنذار بما وعد الله به الناكبين عم سبيله، العادلين عن دليله، من الإذلال في هذه الدار، والتخليد بعد العرض عليه في النار، وتصريف المخالفين بين الرغبة والرهبة في العاجل والمغبة.
قال: وينبغي أن يتأنى الكاتب فيما يورده من هذه الأغراض، ليقع في المواقع اللائقة به، ويجلو الحجج في أحسن المعاريض، ويفصح عنها بأقرب الألفاظ من النفوس، فإنه إذا وفق لذلك، ناب كتابه مناب الجيوش والأجناد، وأقر السيوف في الأغماد، ثم قال: ومن صدقت في هذا الفن رغبته، أيد الله تعالى غريزته، وعضد بديهته ورويته.
قلت: وهذا الصنف من المكاتبات السلطانية قد بطل في زماننا، فلم يعهد أم ملكاً من الملوك كتب إلى بلاد الكفر بالدعاية إلى الدين، إذ مثل ذلك إنما يصدر مع الغلبة والقوة والقهر، كما كان الخلفاء في الزمن المتقدم والكفر مقهور معهم، مذلول لديهم. أما الآن فلولا ما أخبر به صلى الله عليه وسلم بقوله: «ونصرت بالرعب مسيرة شهر» وفي رواية: «ونصرت أمتي» لاجتاح أهل الكفر الإسلام، ولكن الله وعد دينه أن لا يخذل.
الصنف الثالث من الكتب السلطانية: الكتب بالحث على الجهاد:
قال في مواد البيان: كما أن الدين ينتظم بالدعاء إليه والترغيب فيه، كذلك ينتظم بصيانة جوزته، وما دخل في مملكته، وكف أعدائه عن تنقص أطرافه، والتغلب على بلاده. ولهذا الغرض فرض الله تعالى الجهاد وأوجبه، وأكد الأمر فيه وشدده، والسلطان يحتاج عند الحوادث التي تحدث من تطرق المخالفين إلى بعض الثغور، أو شن الغارة على أهل الإسلام، أن يدعو إلى الجهاد ومقارعة الأعداء، وصون حريم الملة، وحفظ نظام الدولة.
ثم ذكر أن الرسم فيها أن تفتتح بحمد الله تعالى على جميل صنعه، على إعزاز الكلمة، وإسباغ التعنة باظهار هذه الملة، وما وعد الله به من نصر أوليائه، وخذلان أعدائه، وإدالة الموحدين، وإذالة الملحدين، والصلاة على سوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وذكر طرف من مواقفه في الجهاد، ومقارعته لشيع الإلحاد، وتأييد الله تعالى على أهل العناد، ثم يذكر الحادثة بنصها، ويشرح القصة على فصها، ويندب من جاوره ودناه من أهل الملة أجمعين، ويخاطبهم بما يرهف عزائمهم في نصرة الدين وكافة المسلمين، واتباع سبيل السلف الصالحين، الذين خصهم الله تعالى بصدق الضمائر، ونفاذ البصائر، وصحة الدين، ووثاقة اليقين، فم يكونوا ليرموا مراماً إلا سهل لهم ما توعر، ويسر عليهم ما تعسر وسما بهم ما هو أقصى منه مرمى وأبعد مدى، وأن يحضهم على التمسك بعزائم الدين والعمل على بصائر المخلصين، وافتراض ما فرض الله عليهم أعدائه، وتنجيز ما وعدهم به من الإظفار بهم والإظهار عليهم، وأن يجاهدوا مستنصرين، ويؤدوا الحق محتسبين، ويقدموا رسلاً لا ناكصين ولا شاكرين ولا مرتابين، متبعين الحق حيث يمم وقصد، ومضاربين دونه من صد عنه وعند، ويبالغ في تنخية أهل البسالة والنجدة، والبأس والشدة، ويبعثهم على نصر حقهم وطاعة خالقهم، والفوز بدرك الثواب والرضوان، وتنور البصائر في الإيمان، وفضيله الأنف من الضيم، والبعد من الذيم، إلى غير هذا مما يعدل الأرواح والمهج، والإقدام على مصارع التلف. فإن الملوك الماضين لعلمهم بأن الناس إنما يجودون بذلك للفوائد التي توجبه، كانوا يبذلون لمن يدعونه إلى المكافحة، ويعرضونه للمذابحة، الرغائب التي تهون عليهم إلقاء نفوسهم في المهالك تارة، ويذكرونهم الأحقاد والضغائن. ويخوفونهم من الوقوع من الوقوع في المذلة أخرى.
ثم قال: وينبغي للكاتب أن يقدم في هذه الكتب مقدمات، يرتبها على ترتيب يهز الأريحات، ويشحذ العزائم، ليجمع بين خدمة سلطانه والفوز بنصيب من الأجر.
قلت: وهذا الصنف من المكاتبات السلطانية مستمر الحكم إلى زماننا. فما زالت الملوك يكتبون إلى ما يليهم بالحث على الجهاد، والقيام بأوامره، والحض على ملاقاة العدو، والأخذ بنصرة الدين. وقد تقدم في الكلام على مقدمات المكاتبات في أول هذه المقالة، أن الشيخ شهاب الدين محموداً الحلبي ذكر في حسن التوسل أنه إذا كتب الملك في أوقات حركات العدو إلى أهل الثغور، يعلمهم بالحركة للقاء عدوهم، أنه يبسط القول في وصف العزائم، وقوة المهم، وشدة الحمية للدين، وكثرة العساكر والجيوش، والوثوق بعوائد الله في الظفر، وتقوية القلوب منهم، وبسط آمالهم، وحثهم على التيقظ، وحضهم على حفظ ما بأيديهم من ذلك وما أشبه. وأنه يبرز ذلك في أبين كلام وأجله، وأمكنه وأقربه من القوة والبسالة، وأبعد من اللين والرقة، ويبالغ في وصف الإنابة إلى الله تعالى واستنزال نصره وتأييد الرجوع إليه في تثبيت الأقدام، والاعتصام به في الصبر، والاستعانة به على العدو، دون التصريح بسؤال بطلان حركتهم، ورجاء تأخيرهم، وانتظار العرضيات في تخلفهم، لما في ذلك من إيهام الضعف عن لقائهم، واستشعار الوهن والخوف منهم، وأن زيادة البسط ونقصها في ذلك بحسب المكتوب إليه.
وهذه نسخة مكاتبة من ذلك السلطان إلى بعض نواب الثغور، من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي، أوردها في حسن التوسل وهي: أصدرناها ومنادي النصر قد أعلن بياخيل الله اركبي، ويا ملائكة الرحمن اصحبي، ويا وفود الظفر والتأييد اقربي، والعزائم قد ركضت على سوابق الركض إلى العدا، والهمم قد نهضت إلى عدو الإسلام فلو كان في مطلع الشمس لاستقربت ما بينها وبينه من المدى، والسيوف قد أنفت من الغمود فكادت تنفر من قربها، والأسنة قد ظمئت إلى موارد القلوب فتشوفت إلى الارتواء من قلبها، والكماة قد زأرت كالليوث إذا دنت فرائسها، والجياد قد مرحت لما عودتها من الانتعال بجماجم الأبطال فوارسها، والجيوش قد كاثرت النجوم أعدادها، وسار بها للهجوم للدين نار غضبها، وعداها حر الإشفاق على ثغور المسلمين عن برد الثغور وطيب شنبها، والنصر قد أشرقت الوجود دلائله، والتأييد قد ظهرت على الوجوه مخايله، وحسن اليقين بالله إعزاز دينه قد أنبأت بحسن المآل أوائله، والألسن باستنزال نصر الله لهجة، والأرجاء بأرواح القبول أرجة، والقلوب بعوائد لطف الله بهذه الأمة مبتهجة، والحماة وما منهم إلا من استظهر بإمكان قوته وقوة إمكانه، والأبطال وليس فيهم من يسأل عن عدد عدوه بل عن مكانه، والنيات على طلب عدو الله حيث كان مجتمعة، والخواطر مطمئنة بكونها مع الله بصدقها وكان مع الله كان الله معه، وما بقي إلا طي المراحل، والنزول على أطراف الثغور نزول الغيث على البد الماحل، والإحاطة بعدو الله من كل جانب، وإنزال نفوسهم على حكم الأمرين الآخرين، من عذاب واصب وهم ناصب، وإحالة وجودهم إلى العدم، وإجالة الشيوف التي إن أنكرتها أعناقهم فما بالعهد من قدم، واصطلامهم على ما بأيدي العصابة المؤيدة بنصر الله في حربها، وابتلاؤهم من حملاتها بريح عاد التي تدمر كل شيء بأمر ربها، فليكن مترقباً طلوع طلائعها عليه، متيقناً من كرم الله استئصال عدوه الذي إن فر أدركه من ورائه وإن ثبت أخذته من بين يديه، وليجتهد في حفظ ما قبله من الأطراف وضمها، وجمع سوائم الرعايا من الأماكن المخوفة ولمهان وإصلاح ما يحتاج إلى إصلاحه من مسالك الأرباض المتطرفة ورمها، فإن الاحتياط على كل حال من آكد المصالح الإسلامية وأهمها، فكأنه بالعدو وقد زال طعمه، وزاد ظلمه، وذم عقبى مسيره، وتحقق سوء منقلبه ومصيره، وتبرأ منه الشيطان الذي دلاه بغروره، وأصبح لحمه موزعاً بين ذئاب الفلا وضباعها، وبين عقبان الجو ونسوره، ثقة من وعد الله وتمسكاً منه باليقين، وتحققاً أن الله ينصر من ينصره والعاقبة للمتقين.
وهذه نسخة مرسوم كريم في المعنى، بل هو أصرح في ذلك ما قبله، كتب به عند ظهور الفرنج اللوسارية والشوال بالبحر، من إنشاء الشيخ بدر الدين بن حبيب الحلبي، وهو وإن لم يكن عن السلطان فإنه في معناه، ولقيام النائب بالمملكة قيام السلطان الذي استنابه، وهو: المرسوم بالأمر العالي أعلاه الله تعالى، ولا زالت مراسمه النافذة تبلغ أهل العصابة المحمدية غاية الآمال، وأوامره المطاعة تفضي بكسر اللوسارية وشين الشوال، أن تتقدم العساكر المنصورة بالمملكة الطرابلسية أيد الله تعالى عزائمهم القاهرة، وأذل بسيوفهم الطائفة الكافرة، بارتداء ملابس الجهاد، والتحلي بمرارة الصبر على اجتلاء الجلاد، وأن يجيبوا داعي الدين، ويكفوا أيدي المعتدين، ويفرقوا سهامهم، ويجعلوا التقوى أمامهم، ويشرعوا رماحهم، ويحملوا سلاحهم، ويومضوا بروق السيوف، ويرسلوا نبال الحتوف، ويهدموا بنيان الكفار، ويطلعوا أهلة القسي بمد الأوتار، ويهضموا جانب أهل العناد، ويقابلوا البحر بملء بحر من الجياد، ويناظروا أمواجه بأمواج النصال، ويقاتلوا الفرقة الفرنجية أشد القتال، ولا يهملوهم بالنهار ولا بالليل، ويعدوا لهم ما استطاعوا من قوة ومن رباط الخيل، فإذا استنفروا فلينفروا، ويبالغوا في الغدو والرواح ليبلغوا الرعية من الأمن أمانيها. فقد قال صلى الله عليه وسلم: لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها. ويعتمدوا على القريب المجيب، ويجتهدوا في كسر أصلاب أهل الصليب، وينافسوا في أمر الآخرة ويدعوا الدنيا، ويقاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا، ويشهدوا المواقف، ويبذلوا التالد والطارف، وليبرز الفارس والراجل، ويظهر الرماح والنابل، فإن الجهاد، سطوة الله تعالى على ذوي الفساد، ونقمته القائمة على أهل الشرك والعناد، وهو من الفروض الواجبة، التي لم تزل سهام أصحابه صائبة، فواظبوا على فعله، ولا تذهبوا عن مذهبه وسبله، واطلبوا أعداء الله براً وبحراً، وقسموا بينهم الفتكات قتلاً وأسراً، وفاجئوهم بمكروه الحرب، وناجوهم برسائل الطعن والضرب، وخذوا من الكفار باليمين، وجدوا في تحصيل الربح الثمين، ولازموا النزول بساحل البحر لمنازلة الطغاة والمشركين، {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين}، وسابقوا الأعنة، وهزوا أعطاف الأسنة، وشمروا عن سياق العزائم، ولا تأخذكم في الله لومة لائم، واتخذوا الخيام مساكن، واجعلوا ظهور الخيل لكم مواطن، وانصبوا الألوية والأعلام، وأطفئوا جمرة الشرذمة الغائظة للإسلام، ولا تخشوا من جميعهم الآئل إلى التفريق، وحشدهم الذي هو عما قليل إن شاء الله تعالى غريق، ولا تعبأوا بسفنهم البحرية فإن سفنكم الخيل المخلوقة من الرياح، ولا تنظروا إلى مجاذيفهم الخشبية، فإن مجاذيفكم السيوف والرماح، فاقلعوا قلوعهم، وشتتوا جموعهم، وأذهبوا الجنف والحيف، وخاطبوا بألسنة السيف، وأوقدوا في قلوبهم بالتحصين والاحتراز ناراً، وادعوا الله أن لا يذر على الأرض من الكافرين دياراً، ونكسوا صليبهم المنصوب، وبادروا إلى حرب حزبهم المغلوب، وارفعوا باليقين شك هذه المحنة، وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، واهجروا في ذات الله طيب المنام، وانقلوا الأقدام إلى الأقدام، واكشفوا عنكم أستار الملال والملام، واهتموا بما يعلي كلمة الإسلام، فليرفعنكم الله إلى منازل العز والتمييز، {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز}.
الصنف الرابع من الكتب السلطانية: الكتب في الحث على لزوم الطاعة وذم الخلاف:
قال في مواد البيان: طاعة السلطان والانقياد إليه، والرجوع إلى رأيه والاعتماد عليه، أبدى الأسباب، في استمرار الاتساق والاستتباب، وهي فرض أوجبه الله تعالى. فقال: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، ولا تصح مملكة ولا تدوم دولة إلا بأمرين، أحدهما عدل السلطان، والآخر طاعة الرعية له، فمتى ارتفع أحدهما، فسد السائس والمسوس، ولم تزل ملوك الأزمنة يقدمون إلى الرعايا لزوم الطاعة، والاعتصام بحبل الشريعة والنهي عن مفارقة الجماعة.
قال: والرسم فيها أن تفتتح بالحمد لله على النعم، في تأليف قلوب أهل الدين، وجمع كلمة الموحدين، ورعاية أهوائهم إلى الاتفاق، وصيانة عصاهم عن الانشقاق، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم، والتنبيه على فضائل الطاعة، فإنها العروة الوثقى، والمعقل الذي لا يرقى، والحصن الحصين، والكنف الأمين، والحمى الأمنع، والمرقب الأرفع، وأن من حافظ هعليها فاز وسلم، وربح وغنم، ومن فارقها خسر وخاب، ونكب عن سبيل الصواب، وإيضاح ما في سبيل الطاعة من اتفاق الكلمة، وانتظام شمل الأمة، وشمول الخيرات، وعموم البركات، وعمارة البلاد، وصلاح العباد، وما في المشاققة من الفساد العام، العائد بانتثار النظام، وانبتات الحبل، وتفرق الشمل، واجتثاث الأصل، وطموس الديار، وصيال الأشرار، وانقماع الأخيار، وتوالي الفتن التي لا يصيب الظالم خاصة دون العادل، ولا المشاقق دون الموافق، وحلول النوائب المزيلة للنعم، وإتباع ذلك بما يجب من إعذار وإنذار، وترهيب وترغيب، وتذكير وتبصير، ووعظ وتخويف، وبعث العلماء الحصفاء، على ردع الجهلاء السخفاء وتنبيه أهل السلامة والصلاح، على كف ذوي العيث والطلاح، إلى نحو هذا مما يجاريه. وأن يبالغ فيما يورده من هذه المعاني، فإن هذه الكتب إذا كانت بليغة مستوفاة جيدة العبارة، أخذت بمجامع القلوب، وأغنت عن الكتائب في إدراك المطلوب.
وهذه المكاتبات في المعنى ذلك أوردها أبو الحسين بن سعد في ترسله، وهي: أما بعد، فإن الله أفترض الطاعة وأوجبها، وأمر بها ورغب فيها، وجعلها عصمة في كل فتنة، وضياء من كل شبهة، وسلامة من كل هلكة، وسبباً لظفر بخير الدنيا والآخرة، من أراد الله به خيراً وفقه لها، وألزمه المحافظة عليها والاعتصام بحبلها، فتعجل عزها وشرفها، وسعتها وأمنها، واستحق السعادة في الدار الآخرة بها، والمثوبة عليها.
آخر: وقد علمتم ما جعل الله في الطاعة ولزومها، والمحافظة عليها، من العز والمنعة والأيد والفوز بخير الدنيا والآخرة وما في خلافها من صنوف، وأنواع المتالف.
آخر: وقد كانت الطاعة أنافت بك على كل ظليل، وأفضت بك إلى لين مهاد عند إقضاض المضاجع، وصفاء المشارب عند تكدر المناهل، واتصال أمنة عند حدوث المخاوف، حتى فعلت كذا وكذا.
آخر: فلم يمرق من طاعته مارق، ولا فارقها مفارق، إلا صرع الله خده، وأتعس جده، وخضد شوكته، وأكذب ظنه وأمنيته، وجعله لسيوف الله غرضاً، ولأوليائه غنيمة.
آخر: والطاعة في العروة الوثقى، والطريقة المثلى، والغنيمة لأهلها في الأخرى والأولى.
عبد الحميد: فإن الفتنة تتشوف لأهلها بآنق منظر، وأزين ملبس، تجر لهم أذيالها، وتعدهم تتابع لذاتها، حتى ترمي بهم في حومات أمواجها، مسلمة لهم، تعدهم الكذب وتمنهم الخدع، فإذا لزمهم عضاضها، ونفر بهم شماسها، وتخلت عنهم خاذلة لهم، وتبرأت منهم معرضة، قد لبسوا أجمل لباس دينهم، واستنزلوا عن أحصن معاقل دنياهم، من الغناء البهي منظره، الجميل أثره، حتى تطرحهم في فضائح أعمالهم، والإيجاف في التعب، وسوء المنقلب، فمن آثر دينه على دنياه تمسك بطاعة ولاته، وتحرز بالدخول في الجماعة تاركاً لأثقل الأمرين، وأوبل الحالين.
ابن عبدكان في ذم الخلاف: وإن كان فلاناً عبداً من عبيدنا، اعتوره إنعامنا، ونوه به إكرامنا، وشرفه ولاؤنا، وحسن عنده بلاؤنا، وابتنينا له الأموال، وأسنينا له الأعمال، وأوطأنا عقبه الرجال، فلم تقع النعم منع عند شاكر، ولا الصنيعة عند محتمل، فلما رفع الله بمكاننا حسيسته، وبلغه من شرف الذكر ونباهة القدر وانبساط يده ما كانت ما كانت همته تعجز عنه، وآماله تقصر دونه، أضراه ذلك وأبطره، وأطغاه وأكفره، فاختال زاهياً، واستكبر عالياً، وغدر باغياً، وشاق عاصياً، وأوضع في الفتنة لنا حرباً، ولأعدائنا حزباً، ولمن انحرف عنا يداً، ولمن مال إلينا ضداً، من غير سبب أوجبه، ولا أمر دعاه إليه، فكان كما قال الله عز وجل في كتابه: كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى، وكقوله: ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض، فلما ورده الخبر بما هيأ الله لنا من الرجوع إلى الفسطاط على الحال السارة لأوليائنا، الغائطة لأعدائنا، سقط في يده، وفكر في غليظ جرمه وخيانته، فأداه الخوف الذي استشعره، والإشفاق الذي خامره، إلى أن ركب عظيماً في الأمور، وكاشف بالمعصية والغرور، مكاتفاً أعداء، وموالياً ذوي العداوة والنشارة، ونرجو بحلول الله وقوته، وإرادته ومشيئته، وما لم يزل الله- تقدس اسمه- يجزيه عندنا من جميل عاداته فيمن سفه الحق، وزاغ عن القصد، أن يبسل هذه الخائن بخبائث أعماله، ويسلمه لقبائح أفعاله، وأن يصرعه بأسوأ مصارع أمثاله، فإن أحداً لم يحمد النعمة، إلا استدعى النقمة، ولم يذع الشكر، ويستعمل الكفر، إلا كانت العثرة منه قريبة، والبلايا محيطة، قولاً لا يبدل رسمه ولا يحول.
من كتاب موسى بن عيسى: أما بعد، فإن امرأ لو خلص من فلتات الخطأ وخطوات الملأ، بفضيلة رأي ولطافة بصر بالأمور، كنت أحجى بذلك دون أهل زمانك، للذي جرت لك عليه تصاريف التبع وتعرضت لك به وجوه العبر، ولما استقبلت من موارد أمور نفسك، وتعقبت من مصادر أمور غيرك، ولكن الله إذا أراد أمراً جعل له من قضائه سبباً، ومن مقاديره عللاً، فمن مقادير علل البلاء تضييع المعرفة، وإلغاء ما تفيده التجربة، ومن أسباب السلامة الانتباه بالعبر، والاستدلال بما كان على ما يكون. وأنت امرؤ جرت لك وعليك أنحاء من النعم، وأنحاء من الحجج، عرفت بها ما لك وما عليك، فإن تأخذ بها، عرفت كيف تسلك كسالكه، وإن تدع الأخذ بذلك، تدعه على علم. وقد رأيت الذي انقادت لك به النعمة، ووهبت لك به العافية، فيما ألهمك الله من طاعة ولاة أمورك، والصبر لها على مواطن الحق التي رفع الله بها ذكرك، وأحسن عليها عقباك وذخرك، فلم تمض بك في طاعتهم رتبة، إلا قربك الله بها من الخير عقبة، ولا تبذل من نفسك نصحاً، إلا أوجب لك به نحجاً، ولم تفتأ تواتر ذلك، من مناصحتك وحسن طاعتك، حتى طلت بها على من طأولك، وفضلت بها على فاضلك، وجريت ممدوداً عنانك إلى قصوى غايات أملك، فأصبحت قريع المسلمين، بعد خليفة أمير المؤمنين، وخيرته من خلفه، بعد ذوي الفضل من أهل بيته، حتى تمالك من رجالات العرب نظير في منزلة، ولا نديد في حال ولا رتبة، بل هم فيك رجلان: إما راهب منك، وإما راغب فيك.
قلت: وهذا الصنف من المكاتبات السلطانية مستمر الكتابة إلى زماننا. فلما زالت الملوك يكتبون إلى من يتخيلون منه خلع الطاعة من النواب ومن في معناهم، ويحثونهم على لزوم الطاعة، ويحذرونهم المخالفة والخروج عن الجماعة.
ومن ذلك ما كتب به الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي إلى متملك سيس عند كسرة التتار، بعد قيامه معهم في المصاف، ومساعدته إياهم، وهو: بصره الله برشده، وأراه مواقع غيه في الإصرار على مخالفته ونقض عهده، وأسلاه بسلامة نفسه عمن روعته السيوف الإسلامية بفقده.
صدرت تعرفه أنه قد تحقق ما كان من أمر العدو الذي دلاه بغروره، وحمله التمسك بخدعه على مجتنبة الصواب في أموره، وأنهم استنجدوا في كل طائفة، وأقدموا على البلاد الإسلامية بنفوس طامعة وقلوب خائفة، وذلك بعد أن أقاموا على البلاد مدة يشترون المخادعة بالموادعة، ويسرون المصارمة في المسالمة، ويظهرون في الظاهر أموراً، ويدبرون في الباطن أموراً، ويعدون كل طائفة من أعداء الدين ويمنونهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً، وكنا بمكرهم عالمين، وعلى معاجلتهم عاملين، وحين تبين مرادهم، وتكمل احتشادهم، استدرجناهم إلى مصارعهم، واستجررناهم ليقربوا في القتل من مضاجعهم، ويعبدوا في الهرب عن مواضعهم، وصدمناهم بقوة الله صدمة لم يكن لهم من قبل، وحملنا عليهم حملة ألجأهم طوفانها إلى ذلك الجبل، وهل يعصم من أمر الله جبل، فحصرناهم في ذلك الفضاء المتسع، وضايقناهم كما رؤي ومزقناهم كما قد سمع، أنزلناهم على حكم السيف الذي نهل من دمائهم حتى روي وأكل من لحومهم حتى شبع، وتبعتهم جيوشنا المنصورة تتخطفهم رماحها، وتتلقفهم صفاحها، ويبددهم في الفوت رعبها، ويفرقهم في القفار طعنها المتدارك وضربها، ويقتل من فات السيوف منهم العطش والجوع، ويخيل للحي منهم أن موضعه كالدنيا التي ليس للميت إليها الرجوع، ولعله قد رأى من ذلك فوق ما وصف عياناً، وتحقق من كل ما جرى ما لا يحتاج أن نزيده به علماً ولا نقيم عليه برهاناً.
وقد علم أن أمر هذا العدو المخذول ما زال معنا على هذه الوتيرة، وأنهم ما أقدموا إلا نصرنا الله عليهم في مواطن كثيرة، وما ساقتهم الأطماع في وقت ما إلا إلى حتوفهم، ولا عاد منهم قط في وقعة آحاد تخبر عن مصرع ألوفهم، ولقد أضاع الحزم من حيث لم يستدم نعمة الله عليه بطاعتنا التي كان في مهاد أمنها، ووهاد يمنها، وحماية عفوها، وبرد رأفتها التي كدرها بالمخالفة بعد صفوها، يصون رعاياه بالطاعة عن القتل والإسار، ويحمي أهل ملته بالحذر عن الحركات التي ما نهضوا إليها إلا وجروا ذيول الخسار، ولقد عرض نفسه وأصحابه لسيوفنا التي كان من سطوتها في أمان، ووثق بما ضمن له التتار عناء كان عنه في عنى، وأوقع روحه بمظافرة المغل في حومة السيوف التي تخطفت أولياءه من هنا ومن هنا، واقتحم بنفسه موارد هلاك سلبت رداء الأمن عن منكبيه، واغتر هو وقومه بما زين لهم الشيطان من غروره {فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه} وما هو والوقوف في هذه المواطن التي تتزلزل فيها أقدام الملوك الأكاسرة؟ وأنى لضعاف النقاد قدرة على الثبات لوثوب الأسود الضارية والليوث الأكاسرة؟ لقد اعترض بين السهم والهدف بنجره، وتعرض للوقوف بين ناب الأسد وظفره، وهو يعلم أننا مع ذلك نرعى له حقوق طاعة أسلافه التي ماتوا عليها، ونحفظ له خدمة آبائه التي بذلوا نفوسهم ونفائسهم في التوصل إليها، ونجريه وأهل بلاده مجرى أهل ذمتنا الذين لا نؤيسهم من عفونا ما استقاموا، ونسلك فيهم حكم من أطراف البلاد من رعايانا الذين هم في قبضتنا، نزحوا أو أقاموا، ونحن نتحقق أنه ما بقي ينسى ملازمة ربقة الحتف خناقه، ولا يرجع إلى الموت من ذاقه؟ فيستدرك باب الإنابة قيل أن يغلق دونه، ويصون نفسه وأهله قبل أن تبتذل السيوف الإسلامية مصونه، ويبادر إلى الطاعة قبل أن يبذلها فلا يقبل، ويستملك بأذيال العفو قبل أن ترفع دونه فلا تسبل، ويعجل بحمل أموال القطيعة وإلا كان أهله وأولاده في الجملة ما يحمل منها إلينا، ويسلم مفاتح ما عدا عليه من فتوحنا وإلا غهو يعلم أنها وجميع ما تأخر من بلاده بين يدينا، ويكون هو السبب في تمزق شمله، وتفرق أهله، وقلع بيته من أصله، وهدم كنائسه، وابتذال نفسه ونفائسه، واستراق حرمه، واستخدام أولاده قبل خدمه، واستقلاع قلاعه، وإحراق ربوعه ورباعه، وتعجيل رؤية ما وعد به قبل سماعه، ومن لغازان أن يحاب إلى مثل ذلك، أو يسمح له مع الأمن من سيوفنا ببعض ما في يده من الممالك، لينفع بما أبقت جيوشنا المؤيدة في يده من الخيل والخول، ويعيش في الأمن ببعض ما نسمح له به ومن للعور بالحول، والسيوف الآن مصغية إلى جوابه لتكف إن أبصر سبيل الرشاد، أو تتعوض برؤوس حماته وكماته عن الإغماد إن أصر على العناد، والخير يكون إن شاء الله تعالى.
الصنف الخامس من الكتب السلطانية: الكتب إلى من نكث العهد من المخالفين:
قال في مواد البيان: إذا نقض معاهد عهده، أو نفض من شروط الهدنة يده، فالرسم أن يصدر ما يكتب به بالحمد لله تعالى موهبته في إظهار الدين، وإعزاز المسلمين، وما تكفله من النصر على الباغين، ووعد به أهل العدل من الإدالة والتمكين، والصلاة على سيدنا محمد النبي صلى الله عليه وعلى آله أجمعين، وإيراد طرف من معجزاته وفضائله، وآياته ومناقبه التي تنخرط في هذا النظام، وتليق بهذا النمط من الكلام، ثم يتبع ذلك بمقدمة تدل على متانة البصائر في الدين، ووثاقه العقائد في إذالة المحادين، ومضاء العزائم في مجاهدة المعتدين، والاستطالة على المعاندين، مع ما تضمنه الله تعالى من نصره وإظفاره، ووعد من تأييده وإقراره، وسهله من إهواء الأهوية إليه، وجمع الكلمة عليه، بما خوله من بأس وشدة، وعديد وعدة، وما يليق بذلك مما يعرب به عن علو السلطان، ووفور الإخوان، واتساع القوة والأيد، وصدق العزم والجد. ثم يذكر الحال التي انعقدت الهدنة عليها، وأن الإجابة إليها لم تقع قصوراً عن غزوهم في عقر دارهم، وتشريدهم بالغارات المبثوثة براً وبحراً عن قرارهم، وإنما قبولاً لمساءلتهم، وامتثالاً لأمر الله تعالى فيها عليهم، والمعاقل المنتزعة من أيديهم، وأن تلك العزائم مضطرمة متوقدة، وتلك السيوف مشحذة مهندة، وأن الله تعالى قد أباح حرم من نقض عهده، ونفض من الذمام يده، وأن كتائب الله موجفة وراء هذا الكتاب، في جيش يلحق الخبت بالهضاب، ما لم يكن منهم مبادرة إلى الإقلاع والإنابة، ومكاتبة في الصفح والاستتابة، وأنه قد قدم الأعذار، وبدأ قل الإقدام بالإنذار، وما تقتضيه الحال من هذا ومثله.
وقال: فإن كان الكتاب جواباً عن ورد، أجيب بما ينقضه، وبني الأمر فيه على ما يبسط الهيبة، ويدعو إلى النزول على أحكام الطاعة. ويختلف الحال في ذلك باختلاف الأمور الحادثة، والأسباب العارضة، فينبغي للكاتب أن يحتاط فيما يطلق به قلمه من هذه المعاني الخطيرة، لأنها مزاحمة بالدول والملك، وحجج تحصل من كل دولة عند الآخرين، ودرك ما يقع قيها عائد عليه، ومنسوب إليه.
وهذه النسخة كتاب كتب به عن الحافظ لدين الله الخليفة الفاطمي بالديار المصرية، إلى النصراني الأرمني الذي كان استوزره، ثم خرج عليه رضوان بن ولخشي، ارتغاماً للدين، لتحكم نصراني في أهل الملة، وولي الوزارة مكانه، ففر هارباً على الشام ناقضاً للعهد، كتب إلى الحافظ يطلب أهله وجماعته من الأرمن الذين كانوا معه في جملة جند الديار المصرية، مظهراً للطاعة والرغبة إلى التخلي عن الدنيا، والانقطاع في بعض الديرة للتعبد مكراً وخديعة، فكتب له بذلك جواباً عن كتابه الوارد منه، ونص ما كتب إليه: عرض بحضرة أمير المؤمنين الكتاب الوارد منك أيها الأمير، المقدم، المؤيد، المنصور، عز الخلافة وشميها، تاج المملكة ونظامها، فخر الأمراء، شيخ الدولة وعمادها، ذو المجدين، مصطفى أمير المؤمنين. ووقف على جميعه، واستولى بحكمه على مضمونه.
فأما ما وسعت القول فيه وبسطته، وتفسحت فيما أوردته منه ذكرته، مما فحواه ومحصوله ما أنت عليه من الطاعة، والولاء والمشايعة، والاعتراف بنعم الدولة عليك، والإقرار بإحسانها إليك، فلعمر أمير المؤمنين إن هذا الذي يليق بك ويحسن منك، ويحسن أن يرد عنك، ويجب أن يعرف لك، وقد كانت الدولة أسلفتك من حسن الظن قديماً، ونقلتك في درجة التنويه حديثاً، حتى رفعك إلى أعلى المراتب، وبلغك ما لم تسم إليه همة طالب، وأوطأت الرجال عقبك، وجعلت أهل الدولة تبعك، مما أغنى اعترافك به عن الإطالة بشرحه، والإطناب في ذكره.
وأما ما ذكرته مما كان أمير المؤمنين أعطاك التوثقة عليه، فأجابك منه إلى ما رغبت فيه، فاستقر بينه وبينك في معناه ما اطمأننت إليه، فلم يزل أمير المؤمنين على الوفاء باطناً وظاهراً، ونية وعلانية، واعتقاده أن لا يرجع عنه، ولا تغير ما أحكمه منه، وإنما حال بينه وبين هذا المراد أن كافة المسلمين في البعد والقرب غضبوا لملتهم، وامتعضوا مما لم يجربه عادة في شريعتهم، ونفرت نفوسهم مما يعتقدون أن الصبر عليه قادح في دينهم، ومضاعف لآلامهم، وانه ذنب لا يغفر، ووزر لا يتجاوز ولا صفح عنه حتى إن أهل المشرق أخذوا في ذلك وأعطوا، وعزموا على ما اتفقوا عليه مما صرفه الله وكفى مؤونته والاشتغال به.
وأما ما التمسته من تسيير من الباب من طائفتك إليك، فهذا أمر لا يسوغ ولا يمكن فعله، ولو جاز أن يؤمر به لمنع المسلمون منه فلم يفسحوا فيه. والآن فلن يخلو حالك من أحد القسمين، إما أن تكون متعلقاً بأمور الدنيا وغير منفصل عنها، فأمير المؤمنين يخيرك في ولاية أحد ثلاثة مواضع، إما قوص، أو خميم، أو أسيوط، فأيها اخترت ولاك إياه، ورد أمره والنظر فيه إليك، على أن تقتصر من الذين معك على خمسين أو ستين فارساً، وتسير الباقين إلى الباب ليجروا على عادتهم، ورسومهم في واجباتهم وإقطاعاتهم، إذ كانوا عبيد الدولة ومتقلبين في فضلها، وأكثرهم متولدون في ظلها. وإما أن تكون على القضية التي ما زالت تذكر رغبتك فيها وإيثار لها، من التخلي عن الدنيا ولزوم أحد الديرة، والانقطاع إلى العبادة فإن كنت مقيماً على نحو ذلك فتخير ضيعة من أي الضياع شئت يكون فيها دير تقيم فيه وتنقطع إليه، فتعين الضيعة ليجعلها أمير المؤمنين تسويغاً لك مؤبداً، وإقطاعاً دائماً مخلداً، وتجري مجرى الملك، ويكتب لك بذلك ما جرت العادة بمثله، مما يطمئن إليه وتستحكم ثقتك به. وإن أبيت القسمين المذكورين ولم يرضك الأول منها، ولا رغبت في الثاني، فتحقق أن المسلمين بأجمعهم، وكافتهم وأسرهم، وكل من يقول بالشهادتين، من قاص ودان، وقريب وبعيد، وكبير وصغير، ينفرون إليك، ويتفقون على القصد لك، ولا يختلفون في التوجه نحوك، وهو عمل ديني، لا يرثيه أمر دنيوي، فتأمل ما تضمنته هذه الإجابة من الأقسام، وطالع بما عندك في ذلك.
قلت: وهذا الصنف من المكاتبات السلطانية لا وجود له في زماننا لعدم وقوع الهدن المترتب عليها هذا الصنف من المكاتبات، فإن احتيج إلى ذلك مشاه الكاتب على القاعدة القديمة المتقدمة.
الصنف السادس من الكتب السلطانية: الكتب على من خلع الطاعة:
قال في مواد البيان: وهذه الكتب تختلف رسومها بحسب اختلاف أقدار المكاتبين وأحوالهم في الخروج عن الطاعة. قال: وجمع أوضاعها كلها في قانون كلي عسير المرام، إلا أننا نرسم فيها مرسوماً يمكن الزيادة فيها والنقص منها، ثم قال: والعادة أن تنفذ هذه الكتب إلى من ترجى إنابته، وتؤمل مراجعته. فأما من وقع الإياس من استصلاحه، ودعت الضرورة إلى كفاحه، فلا حاجة على معاتبته، ولا وجه لمكاتبته.
قال: والرسم فيها أن تفتتح المكاتبة بالتحميد المناسب لمعنى الكتاب، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، بما يدعو إلى إيناسه، ويزيل أسباب استيحاشه، ويعود بثبات جاشه، ويبعثه على مراجعة فكره، ومعاودة النظر في أمره، ويذكره ما أسدي من العوارف إليه، وأفيض من النعم عليه وأنه لا ينفر سربها بجحدها وكفرها 0ويوحش ربعها بإهمال حمدها وشكرها ويربطها بحسن الطاعة ويسترهنها بالتأدب في التباعة ولا يجر الوبال إلى نفسه بالخروج عن العصمة في عاجل ذميم الوصمة وفي آجل أليم النقمة ويبصره بعاقبته ومن يليه من ذوي الجند بما يقتضي رب الإنعام لديهم، وإقرار الفضل عليهم، وأن يسلبهم ملبس الظل الظليل، وأن يعطلهم من خلي الرأي الجميل، ويتدرع في أثناء ذلك بشعار النفاق، ويتسم بميسم الشقاق، ويتعجل من داره، وبعده من قراره، وهدم ما شيده الإخلاص م نذكره، وتقويض ما رفعته الطاعة من قدره، ويعود بعد أن كان مجاهداً عن الحوزة مجاهداً بمحتدها، وبعد أن كان مرامياً عن السدة مرمياً بيدها، ويضيع ما أسدى إليه، وأفيض من الإحسان عليه، وما ذهب من اليقين في تدريجه إلى مراقي السيادة، ومن الرغائب في إلحاقه بأهل السعادة، ويغتر بمن يزين له عاجل الآجل، ويتقرب إليه بخدع الباطل، ويجعل أقوالهم دبر سمعه، ويبعد أشخاصهم عن نظره، ناظراً في عاقبته، وحارساً مهجته، وراغباً في حقن دمه، وصيانة حرمه، وليرجع إلى الفناء الذي لم يزل يحرزه، والكنف الذي لم يزل يعزه، ولا يجعل مسالمه بالعنود منازعاً، ومواصله بالجحود مقاطعاً، وواهبه بالكفر سالباً، ومطلع النعمة بضياعه حقها مغرباً، وقد بقي في الحبل ممسك، وفي الأمر مستدرك، لأن يهب من رقدته، ويستبدل من لقاء أمير المؤمنين بلقاء حضرته. ثم يقول: فإن كان ما جناه قد هد سربه، وكدر شربه، وأحس في نفسه سوء الظن، وأخافه بعد الأمن، فليبعث رسوله يستوثق ويعاقد، ويتوكد ويعاهد، فإذا عاد إليه بما يملأ فؤاده أمناً، ويكون عليه حصناً، سارع إلى الامتثال المراسم، وجرى في الطاعة على سننه المتقادم، ولا يستمر على المدافعة والمطأولة ويقتصر على المغايظة والمماطلة.
ثم يقال بعد ذلك: وقد قدم أمير المؤمنين كتابه هذا إليك نائباً عنه في استصلاحك، وقائداً يقودك إلى طريق نجاحك، قبل تجريد مواضيه، وإلحاق مستأنفه في الحرب بماضيه، وخيوله تجاذب الأعنة، وذوابله مشرعة الأسنة، ولم يبق إلا قصدك في عقر دارك التي بوأكها، وانتزاع نعمته التي أعطاكها، لتذوق مرارة المخالفة، وتزنها بحلاوة الموافقة، فكن على نفسك لنفسك حاكماً، ولا تكن لها ظالماً، ونحو ذلك مما يليق به.
وإن كانت المكاتبة إلى رجل قد سبقت له سابقة بخلع الطاعة، ثم سأل الإقالة فأقيل بعد الإحاطة به والنكاية فيه، ثم راجع العصيان فالرسم أن تفتتح بحمد الله عاجل العافية للمتقين، والعدوان على الظالمين، والعزة لحزبه، والذلة لحربه، والإظهار لأهل طاعته، والخسار لأهل معصيته، ودائرة السوء على الخالعين طاعة خلفائه، القائمين بحجته. ثم يقال: أمير المؤمنين على ما يراك تتخوله به من تصديق آماله، وتوفيق أفعاله، وتسديد مراميه، وهداية مساعيه، وإجابة دعوته، وتحقيق رغبته، بإدالة مواليه، وإذالة معاديه، وعونته على ما ولاه، وتمكينه ممن ناواه، ويسأله الصلاة على سيدنا محمد نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ثم يؤتى بمقدمة تدل على جميل عاقبة الطاعة، وذميم مغبة المعصية، يبسط القول عليها، ويتوسع فيها، لتكون فراشاً لما يتلوها. ثم يقال بعدها: وإنما يحمل ذلك أهل الغرارة الذين لم يوكلوا شكائم التجارب، ولم يمارسوا ضرائب النوائب، وأنت فقد تذوقت من كراهة المعصية ومرارتها، وعذوبة الطاعة وحلاوتها، ما يرجو أمير المؤمنين أن يكون قد وعظك بأدبك، وقومك وهذبك، وكشف لك عن عاقبتهما، وعرفك بغايتهما، فدعتك الطاعة إليها بما أسبغه عليك من لباس شرفها ومجدها، واستخدمته لك من أنصار إقبالها وسعدها، ونهتك المعصية عنها بما بلوته من نوائبها وصنائعها، وجربته من مرمض مراميها ومواقعها، لأنها أقلت عددك ومزقت مطرفك ومتلدك، حتى تداركك من عطف أمير المؤمنين ما أنبتك بعد الحصد، وراشك بعد الحص، وانتهى إلى أمير المؤمنين أنك حنيت إلى أتباع الضلالة الذين غروك، وملت إلى أشياع الفتنة الذين استهووك، فأصغيت إلى أقوالهم التي ظاهرها نصح وباطنها غش، وآرائهم التي موردها صلاح ومصادرها فساد، وملت إلى معاودة الشقاق والارتكاس في العصيان، ومقابلة النعمى بالكفران، فقدم كتابه إليك مذكراً، ومنحك خطابه معذراً منذراً، ليعرفك حظك، ويهديك من مراجعة ما قارفته، وأن تنزل عن المنزلة التي رقاك إليها، وتجدب رباعك من النعمة التي أرتعك فيها، وتتخلى عن مرابع الدعة التي أوردك عليها، فانظر لنفسك حسناً، وكن إليها محسناً، وانتفع بمراشد أمير المؤمنين، ولا تفسدن بخلافك عن أمره نصيبك من الدنيا والدين، فارجع إليه مسترغماً فإنه يقتدي بالله في الرحمة للمحسنين، ما دام مؤثراً لرب النعمة لديك، وإقرارها عليك، فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى.
قال: وإن كانت المكاتبة على رعية قد خرجت عن الطاعة كتب إليها بما مثاله: أما بعد، وفقكم الله تعالى لطاعته، وعصمكم من معصيته، فإن الشيطان يدلي الإنسان بغروره، ويقيم له الضلال في صورة الهدى ببهتانه وزوره، مستخفاً لطائشي الألباب، ومستزلاً للأقدام عن موقف الصواب، ومحسناً بكيده لاعتقاده الأباطيل، مزيناً بغيه اتباع الأضاليل، صارفاً بمكره عن سواء السبيل، مصوراً للحق في صورة المين، مغطياً على القلوب بشغاف الرين، والحازم اليقظ من تحرز من أشراكه وحبائله، وتحفظ من مخايله وغوائله، واتهم هواجس فكره، واستراب بوساوس صدره، وعرض ما يعرضه له على عقله، وكرر فيه النظر متحرزاً من مكر الشيطان وختله، فإن ألفاه عادلاً عن الهوى، مائلاً إلى التقوى، بريئاً من خدع الشيطان، آمناً من عوادي الافتتان، أمضاه واثقاً بسلامة مغبته وعاقبته، وشمول الأمن في أولاه وأخراه.
وانتهى إلى أمير المؤمنين أن الشيطان المريد استخف أحلام جماعة من جهالكم، واستولى على أفهام عدة من أراذلكم، وحسن لهم شق عصا الإسلام، ومعصية الإمام، ومفارقة الجماعة، والانسلاخ عن الطاعة التي فرضها الله تعالى على الجمهور، وجعلها نظام الأمور، فقال جل قائلاً: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}، واختار الفرقة التي نهى الله عنها. فقال: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات} ومجانية الألفة التي عدها في جلائل نعمه، فقال ممتناً بها على عباده: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً} وسول لهم التعري من آداب الدين، والمجاهرة بالخلاف على أمير المؤمنين، فنبذوا ما بأيديهم من بيعته، وسلبوا من ظل دعوته، وركبوا من ذلك أوعر المراكب، وسلكوا أخشن المسارب، وسعوا في البلاد بالفساد، وقاموا في وجه الحق بالعناد، واستخفوا بجمل الآثام، وبسطوا أيديهم إلى الدماء الحرام، وشنوا الغارات على الإسلام.
وقد علمتم أن من أقدم على تأثير مثل هذه الآثار، فقد استنزل في هذه الدار سخط الجبار، وتبوأ في الآخرة مقعده من النار، وجرى على غير الواجب في إقامة الفروض والصلوات، وتأدية العبادات والزكوات، وعقد العقود والمناكحات، لأن هذه الأحوال إنما ترضى وترفع، وتجاب وتسمع، إذا تولاها أمير المؤمنين، أو من يستخلفه من صلحاء المسلمين، فأما إذا استبددتم فيها بأنفسكم، واقتديتم في تأديبها بناكب عن سبيله، مجانب لدليله، فقد تسكعتم في الضلالة، وتطابقتم على الجهالة، وكل راض منكم بذلك، عاص لله ورسوله وللإمام.
ولما اطلع أمير المؤمنين على ما ذهبتم إليه بسوء الاختيار، وركبتموه من مراكب الاغترار، لم ير أن يلغيكم ويهجركم، ويغفلكم ولا يبصركم، فقدم مكاتبتكم معذراً ومنذراً، ومخوفاً ومحذراً، وبدأكم بوعظه مشفقاً عليكم من زلة القدم، وموقف الندم، وجاذباً لكم من مضال الغواية، إلى مراشد الهداية، وافتتحكم باللفظ الأحسن، والقول الألين، وهداكم إلى السبيل الأوضح، والمتجر الأربح، واختار أن يهديكم الله تعالى إلى طريق الرشاد، ويدلكم على مقاصد السداد، ويعيدكم إلى الأولى، ويبعثكم على الطريقة المثلى، وأن تعرفوا الحق فتعتصموا في أيديكم من بيعته، وتقوموا بما فرض عليكم من طاعته، وترجعوا إلى إجماع المسلمين، وما اتفقت عليه كلمة إخوانكم في الدين، وتتبعوا مذاهب أهل السلامة، وأولي الاستقامة، فإن وقع ما ألقاه إليكم الموقع الذي قدره فيكم، وسألتم الإقالة، فالتوبة تنفعكم، والعفو يسعكم، وإن تماديتم في غيكم وباطلكم، وغروركم وجهلكم، تقدمت إليكم جيوش أمير المؤمنين مقومة، ومن عصاتكم منتقمة، وذلك مقام لا يتميز فيه البريء من السقيم، ولا الجاهل من العليم، ألا تسمعون الله تعالى يقول: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}؟ وأي فتنة أشد من طاعة الشيطان، ومعصية السلطان، وشق العصا، وإراقة الدما، وإثارة الدهما؟ فاتقوا الله وارجعوا، وتأملوا وراجعوا، وتبصروا واستبصروا، وقد أوضح لكم أمير المؤمنين المحجة، وبدأكم بالحجة، فأوجدوه السبيل إلى ما ينويه لكم ولكافة أهل الإسلام، من حقن الدماء، وصيانة الحريم، وتحصين الأموال، وشمول الأمن والأمان، وأجيبوا عن كتابه هذا بما يوفقكم الله تعالى إليه، من إجابة دعائه والعمل برأيه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة ما كتب به عبد الحميد إلى بعض من خرج عن الطاعة، وهو: أما بعد: بلغني كتابك تذكر أنك تحمل المرد على الجرد، فسترد عليك جنود الله المقربون، وأولياؤه الغالبون، ويرد عليك من ذلك حزبه مع ذلك حزبه المنصور من الكهول، على الفحول، كأنها الوعول، تخوض الوحول، طوال السبال، تختضب بالجربال، وهو رجال هم الرجال، بين رامح وناشب، ليس معهم إلا كلب محارب، ولا ينكلون عن الأصحاب، قد ضروا بضرب الهام، واعتادوا الكر والإقدام، ليسوا بذوي هينة ولا لإحجام، يقضون بالسيوف، ويخالطون الزحوف، في أعنتهم الحتوف، يزأرون زئير الأسود، ويثبون وثوب الفهود، وليس فيهم إلا شاك محتبك في الحروب مجرب، قد شرب على ناجذ الحرب وأكل، ذو شقشقة وكلكل، كأنما أشرب وجهه نقيع الحناء، قد رئم الحرب ورضعها، وغذته وألفها، فهي أمه وهو ابنها، يسكن إليها ويأنس بقربها، فهو بطلبها أرب، وعلى أهلها حرب، ولا يروعه ما يروع، ولا يزيغه ما يزيغ الغمر الجبان، حين يشتد الوغى، ويخطر القنا، وتقلص الشفاه، وتسفر الكماه، فعند ذلك تسلمك المرد، وتكشف عن الجرد. فتأهب لذلك أهبتك، واخطب له خطبتك، من المساكين والحولة، ثم كيدوني جميعاً فلا تنظرون، فما أسرنا إكثارك الجموع، وحشدك الخيول، فإنك لا تكثف جميعاً، ولا تسرب خيلاً، إلا وثقنا بأن سيمدنا الله من ملائكته، ويزيدنا من نصره، بما قد جرت به سنته، وسلفت به عادته، نحن نجري من ذلك على نقمات من الله ونكال وسطوات مهلكة، فرأيتم ذلك في المنازل، وعرفتموه في المواطن التي يجمعها الحق والباطل، فأبشر منا بما ساءك ضجراً، ومشاك تقاد كما يقلد الجمل المخشوش.
ومن أحسن الكتب في المكاتبة في هذا الباب ما كتب به قوام الدين، يحيى بن زيادة، وزير أمير المؤمنين الناصر لدين الله الخليفة ببغداد إلى طغرل مقطع البصرة بأمر الخليفة له في ذلك، وقد بلغه أنه نزح عنها، قاصداً بعض الأطراف، مفارقاً لطاعة الخليفة، عندما طلب من ديوانه شيء من المال، فأوجب ذلك انثناءه عن عزمه وتوجهه إلى بغداد داخلاً تحت الطاعة، ومقابلته بالصفح وتلقيه بالقبول. وهذه نسخته:
أصدرت هذه الخدمة إلى الجناب الكريم، الأميري، الاسفهسلاري، الأجلي، الكبيري، العمادي، الركني، الظهيري، المحترمي، العزي، الجمالي، أمير الجيوش، أطال الله بقاءه، وأدام علوه ونعمته، وأنا أوقع الأقوال المتواترة، والأموال المنتاصرة، مستغرباً لها، متعجباً منها، كأني أسمعها في المنام، وتخاطبني بها أضغاث أحلام، فلولا أن الأيام صحائف العجائب، ولا يأنس بمتجدداتها إلا من حنكته التجارب، ولم أصدق هذه الحركة المباركة التي وقعت منه بسعادته، فإني ما أراها إلا عثرة من جواد، وعورة من كماله، وإلا فمن أين يدخل الزلل على ذلك الرأي السديد، والعقل الراجح، والفكر الصائب، الذي يعلم الآراء كيف تنير، ويعرف النجوم كيف تسير، ويهدي غيره في المشكلات إلى صواب التدبير. والفائت لا كلام فيه، غير أن العقل يقضي باستدراك الممكن وتلافيه، بالانحراف عن الهوى إلى الرأي الصادق، والرجوع عن تأويل النفس إلى مراجعة الفكر الناضج، فالعود إلى الحق أولى من التمادي على الباطل، وأحب أن تسمع ما أقول بإذن واعية وقلب حاضر، وحوشي أن تستدفعه الكواذب عن تدبر الحقائق، وعرفان النصائح، فإن من القول ما برهانه لا يحتاج إلى شاهد من غيره.
قبل كل شيء، ما الذي أحوج إلى هذه الحال القبيحة السمعة، وركوب الخطر في هذه الحركة، واحتمال هذه المشاق، والانزعاج من غير أن تدعو إليه حاجة؟ هل هو إلا شيء جرت العادة بمثله، وبمطالبة ديوانه بما كان يندفع الأمر ببعضه كما جرت عادة الدواوين، وخدم السلاطين، ثم إنه عمد- أدام الله نعمته- بأول خاطره، وبادأ رأيه في هذه العجلة، من غير تثبت ولا روية، لم لا راجع فكره الكريم، ويقول لنفسه: إلى أين أمضي؟ ولمن أخدم؟ وعلى أي باب أقف؟ وتحت أي لواء أسير؟ وبأي غبار أكتحل؟ وفضل من أطلب؟ وعلى حكم من أنزل؟ بعد أن ربيت في عرصة الخلافة، ودار النبوة، وحضن المملكة، أنشأني نعيمها صغيراً، وقدمني كبيراً، وكنت مأموراً فجعلني أميراً، وطار صيتي في الدنيا ولم أكن شيئاً مذكوراً، فأنا خير من ملك أقصده، وأمثل من كل أرجوه وأستنجده، أفأنزل من السماء إلى الحضيض، وأهدم ما بنى الإنعام عندي في الزمن الطويل العريض؟ هذا هو المكروه الأعظم، الذي تعوذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قال: اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور ومن يكون حضين الخلافة كيف يرضى أن يكون تابع إمارة؟ ولو لم يكن ما هجم إلا عليه إلا هذا لكفى. ثم لم لا يلتفت في هذه الحال التي هو عليها، التي صحبته بوفائها، ويسمع خطابها بلسان حال ثم؟ ثقول له يا عماد الدين، أما هذه خيام الإنعام عليك؟ أما هذه الخيول المسومة تحتك؟ أما هذه الملابس الفاخرة مفاضة عليك؟ أما هذه مماليكه حافة بك؟ أليس الاصطناع رفع قدرك إلى المنزلة التي ثقل عليك بعض الانحطاط عنها، ووهب لك الهمة التي أبيت الضيم بها؟ فحوشيت أن تكون ممن تواترت عليه النعم فملها، وتكاثرت عليه فضعف عن حملها، فياليت شعري! ماذا يكون جوابها؟ والله إنني أقول له بسعادته ولا أعقب، ولو أنه قد تحقق- والعياذ بالله- وقوع كل محذور، وحلول كل مكروه، لك يكن في هذه الحالة معذوراً، فكيف بظن مرجم، وقول مسوف متوهم، ورأي فطير غير مختمر. ولقد كان استسلامه لمالك الرق- صلوات الله عليه وسلامه- أحسن في الدنيا وأعقب في العقبى، واقعاً ذلك من أحواله حيث وقع. والآن فالوقت ضاق في إصدار هذه المكاتبة، عن استقصاء العتاب والمحاققة، وإيراد كل ما تلزم به الحجة، لكني أقول على سبيل الجملة: إنني أخاف على سديد ذلك الرأي إجابة داعي الهوى، فإن اللجاج من أوسع مداخل الشيطان على الإنسان، وحوشي كماله من هذا القسم.
والثاني استشعاره بسعادته من بادرته، واستيحاشه من عجلته، وهذا أيضاً من أدق مكايد النفس الأمارة بالسوء، فإنها تؤمن من الخوف، وتخوف المأمون، وتسحر العقل بالتحير والشك، فلا تصح له عزيمة، ولا تصفو له فكرة، وهذا النوع إذا عرض في الصدر يجب دفعه بالنظر إلى الحق وشجاعة القلب، والإخلاد إلى مناظرة النفس، فإن الإنسان ليس بمعصوم، والزلل في الرأي ليس من أوصاف الجماد، بل من الأوصاف اللازمة للبشرية، وليس الكمال لأحد إلا الواحد الصمد. فإذا عرض له بسعادته هذا الاستشعار، دفعه عن نفسه، فليس سلطان الوسواس الخناس، وإلا في صدور الناس، فلهذا لا ينبغي لمذنب أن يقنط، ولا لمسيء أن يستوحش، لا سيما إذا أتبع الذنب بالاستقالة والاستغفار، والاعتذار والإقلاع، وعلى الخصوص إذا كانت الخيانة عند من لا يتعاظمه عفوها، ولا يضيق حلمه عنها، فإن كل كبيرة توجب المخالفة، وتغرق في بحر عفو الخلافة، فيجب أن يقرر بسعادته ذلك في نفسه، ويخرج سوء الظن والاستشعار من خياله، فإن مثله من خلصان المماليك لا يسمح به، ولا يشغب عليه عند هفوة بادرة.
والثالث الاهباض والحياء. فإنه ربما يقول في نفسه: بأي وجه ألقى مولاي؟ وبأي أعين أبصر الدار العزيزة، رباني وأنشأني، وهذا أيضاً لا يصلح خطوره بباله في هذا المقام، فإنه في ضعف النحيزة، والميل من خوادع الطبع، عن نصائح العقل والشرع، فإن الحياء إتباع زلة القدم بالندم والاعتذار، لا التهوك في اللجاج والإضرار. فقد قال بعض الملوك لخصيص من خواصه، عصاه في شيء من أمره: بأي عين تلقاني وقد عصيت أمري؟ فقال: بالعين التي ألقى بها ربي في الصلوات الخمسة، وهو سبحانه يراني على فواضح المعاصي. وقد أثنى الله سبحانه على ما يقتضي فرط الاستشعار. هل هو إلا عبد خاف بادرة مولاه، فتنحى من مكانه إلى من يعطف عليه برحمته؟ وليس هذا ببديع، ولا من الصفح ببعيد، على أنه بسعادته لو أنصف من نفسه لما استشعر. فكم أخرجت الخزائن الشريفة عليه من الأموال حتى نبت عرقه، وأورق غصنه، وكبر شأنه، وجميع ضمان البصرة عشر معشار ذلك.
والرابع إصغاؤه- والعياذ بالله- إلى قول من لا ينصحه، ويغويه لا يرشده، ويتقرب إليه بمتابعة هواه، وهذا ما لا يخفى عنه لمحة الناقث، ولا يحتاج الإعراض عنه إلى الباعث، فقديماً قيل: صديقك من نهاك، وعدوك من أغراك. والله تعالى، يوفقه لتحقيقه النظر في هذه الأقسام الربعة، التي أحذرها عليه، وأحذره منها، وييسره لليسرى.
وبع ذلك فأنا أنصفه من نفسي، وأقول الحق: إن نفساً رباها خليفة الله في أرضه- صلوات الله عليه وسلامه- بإنعامه، وأعلى همتها باختصاصه، وشرفها بنسب عبوديته، لا يحتمل الهوان، ولا يقر على الابتذال، فغالب ظني أن نفوره بسعادته إنما هو من ديوان الزمام المعمور. والآن فأنا وهو بسعادته عبدان، ولكني أنفرد عنه بالسن والتجريب، وطريقتي هو بسعادته يعرفها، وإنني لا أدخر عن أحد نصحاً. فالصواب أن يقبل قولي، ويتحقق صحة مقصدي في نصيحته ومقصده، فإني أوجب ذلك له على نفسي، وأراه من واجبات خدم مالك الرق- صلوات الله عليه وسلامه- أيضاً.
وقد علم الله تعالى أني قد أوضحت من عذره، وأحسنت المناب بسعادته، ما لو حضره وتولاه بنفسه لما زاد عليه، ورأيت الإنعام يستغني عن كل شرط ولا يحتاج إليه، وتقررت قاعدته بسعادته أن لا يكون له مع ديوان الزمام المعمور حديث، ولامع غيره ممن لا يعرف حقه، ولا يكون من الاحترام واجبه، فإن أمر أن أتولى وساطته فأنا أعتمد ذلك في مراضيه، وتمشية أمره أكثر مما في نفسه. وإن اختار بسعادته أن يكون غيري وسيطه وسفيره، فيعين من يختاره، ليكون حديثه معه. وقد أسلفت من وظائف إحسان المناب أنني تنجزت له بسعادته أماناً متوجاً بالقلم الأشرف المقدس، على نفسه الكريمة وماله وأولاده- والأمان المذكور طي كتابي هذا- مقروناً بخاتم أمان ثان، فيجب أن يكون هو بسعادته جواب ذلك. إذ لا يجوز أن يكون الجواب إلا هو بنفسه الكريمة، فلا يشعر به أحد إلا وهو مقابل التاج الشريف، ملقياً نفسه بين يدي مالكها الذي هو أرحم لها، وألطف بها، وأشفق عليها منها، تالياً ما حكاه القرآن المجيد عن يونس عليه السلام، إذ نادى وهو مكظوم: سبحانك إني كنت من الظالمين فإنه يرى- بمشيئة الله تعالى وتوفيقه- كل ما يجب، ويأمن كل ما يحذر. وأنا أستسرع وصوله عن استعراض مهماته، ولرأيه كرمه، إن شاء الله تعالى.
قلت: فإن اتفقت المكاتبة في معنى ذلك في زماننا، راعى الكاتب فيه صورة الحال، وجرى في ذلك على ما يلائم حاله، ويناسب ما هو فيه، مع النظر في كلام من سبقه إلى شيء من لك، والنسخ على منوال المجيد، والاقتداء بالمحسن في إيراده وإصداره.
الصنف السابع الكتب في الفتوحات والظفر بأعداء الدولة وأعداء الملة، واسترجاع المعاقل والحصون والاستيلاء على المدن.
وأصلها في فتح الأقفال ودخول الأبواب، كأن المدينة أو الحصن كان مقفلاً ممتنعاً بالإغلاق على مقاصده حتى يفتح له فيدخل. قال في مواد البيان: وهو من أعظم المكاتبات خطراً، وأجلها قدراً، لاستمال أغراضها على إنجاز وعد الله تعالى الذي وعد به أهل الطاعة إظهار دينهم على كل دين، وتوفير حظهم من التأييد والتمكين، وما يمر فيها من الأساليب المختلفة التي تشتمل هذا القانون عليها.
قال: والكاتب يحتاج إلى تصريف فكره فيها، وتهذيب معانيها، لأنها تتلى من فوق المنابر على أسماع السامعين، وتجعل نصب عيون المتصفحين.
ثم قال: والرسم فيها أن تفتتح بحمد الله العفو الحليم الغفور الرحيم، العليم الحكيم، ذي البرهان المبين والفضل الجسيم، والقوة المتين والعقاب الأليم، مبيد الظالمين، ومبير القاسطين، ومؤيد العادلين، وجاعل العاقبة للمتقين، والمملي إمهالاً وإنذاراً، والمعاقب تنبيهاً وإذكاراً، الذي لا ينجي منه مهرب، ولا يبعد عليه مطلب، وكيف يعتصم منه وهو أقرب من حبل الوريد، وله على كل لافظ رقيب عتيد؟. والصلاة والسلام على رسوله الأمين، الذي ختم به النبيين، وفضله على المرسلين، وأيده بأوليائه التائبين، الذين قاموا في نصرته، وإعزاز رايته، المقام الذي فازوا فيه بالخصل، فاستولوا على قصبات الفضل، فشركهم معه الوصف والثناء، فقال جل قائلاً: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم.
ثم تؤتى بمقدمة تشتمل على التحدث بنعمة الله في شحذ العزائم لنصرته، وتثبيت الأقدام لقاء عدوه ومجاهدته، وإنجاز وعده في الإعزاز والإظهار، والظفر والإظفار، والاستبشار بموقع النعمة في الفتح الجليل، والإشادة بإبقاء هذا الأثر الجميل. ثم يفيض بما جرت العادة به في مقاربة العدو ومداناته، وبث الطلائع لتنفيذ السرايا في مبادي ملاقاته، وما أفضى إليه الأمر في التقابل والمواثبة، والتواشح في المطاعنة والمضاربة، وذكر مواقف الشجعان في الكفاح والمجاهدة، والذب والمجالدة، وثبوت الأقدام، والجود بالنفوس، واشتداد الأيدي، وقوة الشكائم، واستصحاب العزائم، وتفخيم أمر العدو، بوصفه بكثرة الرجال والأجناد، والقوة والاستعداد، لأن توقع الظفر بمن هذه صفته أعظم خطراً، وأوقع في النفوس أثراً.
ثم يذكر ما جال بين الفريقين من قراع ومصاع، ومصأولة ومناضلة، ومناهدة ومكافحة، وحماية ومنافحة، وثبات ومصاففة، ومقاومة وموافقة، ومخادعة ومطامعة، وينعت المواكب والكتائب، والخيول والأسلحة، والجرحى والمجادلين، والأسرى والمقتلين. واستعمال التشبيهات الفائقة، والاستعارات الرائقة، وإرداف المعاني في الإبانة عن لمعان أسنة الذوابل، وبريق صفحات المناصل، وإعمال المقاصل في القمم، وظهور نجوم السيوف من ليل الحرب في دياجي الظلم، وينعت الدماء المنبعثة من الجراح، على متون الرماح والصفاح.
ويذكر ما أظهره الله تعالى من تكامل النصر ودلائل الظفر، ما انجلت عنه الحرب من قتل من قتل وأسر من أسر، وهزيمة من هزم، وما فاز به الرجال من الأسلاب والأموال، والدواب والرجال، وما جرت عليه الحال من انفلال العدو عند المقاتلة، أو أسر العدو إن أسر، أو اعتصامه بمعقل لا يحصنه، أو امتناعه بحث يحتاج إلى منازلته باستنزاله قسراً، أو حيازة المعقل الذي كان بيده، وما اعتمد فيه من حسن السيرة، وتخفيف الوطأة عن الرعية وحسم أسباب الفتنة، أو رغبته في المسالمة، وسؤاله في المهانة، لخوف أظله، وهلع احتله، وما تردد من رسائل، وتقرر من شروط وعقود، وإنفاذ الأمر في ذلك كما أوجبه الحزم، واقتضاه صواب الرأي.
وإن كان السلم قد وقع، والتنازع قد ارتفع، ذكر اتفاق الحزبين، واتحاد الكلمة، وشمول النعمة.
وإن كان لم يجبه من المهانة، حذراً من المكر والمخادعة، ذكر ما مر في ذلك من رأي وتدبير، وتسديد وتقرير.
وإن كان طلب المهانة ليجد فسحة المهل فيكثر عدده، ويجم عدده، وتتم حيلته، فاطلع منه على ذلك، فبادره مفللاً لكيده ومكره، مذيقاً له وبال أمره، شرح الحال على نصها وما انتهى إليه آخرها.
قال: وقد وقع في هذه الأمور ما لا يحتسب، وسبيل جمعه هذا السبيل.
ثم قال: ويختم الكتاب بحمد الله القاضي لأوليائه بالإدالة، ولأعدائه بالإذالة، الذي يستدرج بحلمه إمهالاً، ولا يلقى العادل عن حكمه إهمالاً، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله.
وقد تقدم في الكلام على مقدمة المكاتبات في أوائل المقالة الرابعة من الكتب، أن هذه الكتب مما يجب بسطها والإطناب فيها، وأن ما وقع في كتاب المهلب بن أبي صفرة، من كتابه إلى الحجاج في فتح الأزارقة من الخوارج، على نظم الفتح وبعد صيته، على سبيل الإيجاز والاختصار، حيث قال فيه: أما بعد، فالحمد لله الذي لا تنقطع مواد نعمه عن خلقه حتى تنقطع منهم مواد الشكر. وإنا وعدونا كنا على حال يسرنا منهم أكثر مما يسوءنا، ويسوءهم منا أكثر مما يسرهم، ولم يزل الله جل ثناؤه يزيدنا وينقصهم، ويعزنا ويذلهم، ويؤيدنا ويخذلهم، ويمحصنا ويمحقهم، حتى بلغ الكتاب أجله. {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} فإنما سلك في سبيل الإيجاز، لكونه من التابع إلى المتبوع، إذ الحجاج كان هو القائم بأمر العراق وما والاه لعبد الملك بن مروان، على شدة سطوته، وما كان عليه من قوة الشكيمة وشدة البأس، مع كون الأدب في المكاتبة المرؤوس الرئيس الإتيان بقليل اللفظ الدال على المقصد، حتى لا يكون فيه شغل للرئيس بطول وبسط القول، على ما تقدم بيانه في موضعه.
واعلم أن الكتابة في فتوحات بلاد الكفر ومعاقلهم والاستيلاء على بلاد البغاة تكاد أن تكون في الكتابة على نسق واحد، إلا أن مجال الكاتب في الفتوحات بلاد الكفر أوسع، من حيث عزة الإسلام على الكفر، وظهور دينه على سائر الأديان.
وهذه نسخة كتاب بفتح فتحه الخليفة وعاد منه، وهي: الحمد لله مديل الحق ومنيره، ومذل الباطل ومبيره، مؤيد الإسلام بباهر الإعجاز، ومتمم وعده في الإظهار بوشيك الإنجاز، وأخمد كل دين وأعلاه، ورفض كل شرع واجتباه، وجعله نوره اللامع، وظله الماتع، وانتعث به السراج المنير، والبشير النذير، فأوضح مناهجه، وبين مدارجه، وأناب أعلامه، وفصل أحكامه، وسن حلاله وحرامه، وبين خاصه وعامه، ودعا إلى الله بإذنه، وحض على التمسك بعصم دينه، وشمر في نصره مجاهداً من ند عن سبيله، وعند عن دليله، حتى قصد الأنصاب والأصنام، وأبطل الميسر والأزلام، وكشف غيابات الإظلام، وانتعلت خيل الله بقبائل الهام.
يحمده أمير المؤمنين أن جعله من ولاة أمره، ووفقه لاتباع سنة رسوله واقتفاء أثره، وأعانه على تمكين الدين، وتوهين المشركين، وشفاء صدور المؤمنين، وأنهضه بالمراماة عن الملة، والمحاماة عن الحوزة، وإعزاز أهل الإيمان، وإذلال حزب الكفران. ويسأله الصلاة على خيرته المجتبى، وصفوته المنتصى، محمد أفضل من ذب وكافح، وجاهد ونافح، وحمى الذمار وغزا الكفار، صلى الله عليه وابن عمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سيفه القاطع، ومجنه المدافع، وسهمه الصادر، وناصره المعاضد، فارس الوقائع، ومفرق الجمائع، ومبيد الأقران، ومبدد الشجعان، وعلى الطهرة من عترته أئمة الأزمان، وخالصة الله من الإنس والجان.
وإن أولي النعم بأن يرفل في لباسها، ويتوصل بالشكر إلى إيناسها، ويتهادى طيب خبرها، ويتفاوض بحسن أثرها، نعمة الله تعالى في التوفيق لمجاهدة أهل الإلحاد والشرك، وغزو أولي الباطل والإفك، والهجوم عليهم في عقر دارهم، واجتثات أصلهم والجد في دمارهم، واستنزالهم من معاقلهم، وتشريدهم عن منازلهم، وتغميض نواظرهم الشوس وإلباسهم لباس البوس، لما في ذلك من ظهور التوحيد وعزه، وخمود الإلحاد وعره، وعلو ملة المسلمين، وانخفاض دولة المشركين، ووضوح محجة الحق وحجته، وصدوع برهانه وآيته.
وكتاب أمير المؤمنين هذا إليك، وقد انكفأ عن ديار الفلانيين المشركين إلى دست خلافته، ومقر إقامته، بعد أن غزاهم براً وبحراً، وشردهم سهلاً ووعراً، وجرعهم من عواقب كفراً مراً، وفرق جمائعهم التي تطبق سهوب الفضاء خيلاً ورجالاً، وتضيق بها المهامه حزناً وسهلاً، ومزق كتائبهم التي تلحق الوهاد بالنجاد، وتختطف الأبصار ببوارق الأغماد، وتجعل رعود سنابكها في السماء، وسبى الذراري والأطفال، وأسر البطاريق والأقيال، وافتتح المعاقل والأعمال، وحاز الأسلاب والموال، واستولى من الحصون على حصن كذا وحصن كذا ومحا منها رسوم الشرك وعفاها، وأثبت سنن التوحيد بها وأمضاها، وغنم أولياء أمير المؤمنين ومتطوعة المسلمين من الغنائم ما أقر العيون، وحقق الظنون، وانفصلوا وقد زادت بصائرهم نفاذاً في الدين، وسرائرهم إخلاصاً في طاعة أمير المؤمنين، بما أولاهم الله من النصر والإظفار، والإعزاز والإظهار، ووضح للمشركين بما أنزل الله عليهم من الخذلان، وأنالهم إياه من الهوان، أنهم على مضلة من الغي والعمى، ومنحاة من الرشد والهدى، فضرعوا إلى أمير المؤمنين في السم والموادعة، وتحملوا بذلاً بذلوه تفادياً من الكفاح والمقارعة، فأجابهم إلى ذلك متوكلاً إلى الله تعالى، وامتثالاً لقوله إذ يقول: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم} وعاقد طاغيتهم على كتاب هدنة كتبه له، وأقره في أعين يده، حجة بمضمونه.
أشعرك أمير المؤمنين ذلك لتأخذ من هذه النعمة بنصيب مثلك من المخلصين، وتعرف موقع ما تفضل الله تعالى به على الإسلام والمسلمين فيحسن ظنك وتقر عينك، وتشكر الله تعالى شكر المستمد من فضله، المعتد بطوله، وتتلو كتاب أمير المؤمنين على كافة من قبلك من المسلمين، ليعلموا ما تولاهم الله به من نصره وتمكينه، وإذلال عدوهم وتوهينه، فاعلم ذلك وأعمل به إن شاء الله تعالى.
ثم الفتوح إما فتح لبعض بلاد الكفر، وإما فتح لما استولى عليه البغاة من المسلمين.
فأما فتح بلاد الكفار فكان سبيلهم فيه أن يصدر الكتاب بحمد الله تعالى على علو دين الإسلام ورفعته، وإظهاره على كل دين، ثم على بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالهداية إلى الدين القويم، والصراط المستقيم، ويذكر ما كان أمره صلى الله عليه وسلم من جهاد الكفار. ثم على إقامة الخلفاء في الأرض حفظاً للرعية، وحياطة للبرية، وصوناً للبيضة، ويخص خليفة زمانه من ذلك بما فيه تفضيله ورفعة شأنه، ثم يؤخذ في تعظيم شأن العدو وتهويل أمره، وكثرة عدده، ووفور مدده، ثم في وصف جيوش المسلمين بالقوة والاستعداد، والاشتداد في الله تعالى، والقيام في نصرة دينه، ثم يذكر الملحمة وما كان من الوقيعة والتحام القاتل، وما انجلت عنه الملحمة من النصرة على عدو الدين وخذلانه، والإمكان منه، وقتل من قتل منهم، وأسر من أسر، وتفريق شملهم، وانتظام كلمة الإسلام، وطماعيتهم بهلاك عدوهم، وما في ذلك معنى ذلك.
وهذه نسخة كتاب كتب به إلى الديوان العزيز، أيام الناصر لدين الله، عن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، بفتح القدس الشريف، وإنقاذه من يد الكفر، في آخر شعبان سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، من إنشاء القاضي الفاضل، وهو: أدام الله أيام الديوان العزيز النبوي الناصري، ولا زال الجد بكل جاحد، وغني التوفيق عن رأي كل رائد، موقوف المساعي على اقتناء مطلقات المحامد، مستيقظ النصر والسيف في جفنه راقد، وارد الجود والسحاب على الأرض غير وارد، متعدد مساعي الفضل وإن كان لا يلقى إلا بشكر واحد، ماضي حكم العدل بعزم لا يمضي إلا بنبل غوي وريش راشد، ولا زالت غيوث فضله إلى الأولياء أنواء إلى المرابع، وأنواراً إلى المساجد، وبعوث رعبه إلى الأعداء خيلاً إلى المراقب وخيالاً إلى المراقد.
كتب الخادم هذه الخدمة تلو ما صدر عنه مما كان يجري مجرى التباشير لصبح هذه الخدمة، والعنوان لكتاب وصف هذه النعمة، فإنها بحر للأقلام فيه سبح طويل، ولطف تحمل الشكر فيه عبء ثقيل، وبشرى للخواطر في شرحها مآرب، ويسرى للأسرار في إظهارها مسارب، ولله في إعادة شكره رضا، وللنعمة الراهنة به دوام لا يقال معه: هذا مضى. وقد صارت أمور الإسلام إلى أحسن مصايرها، واستتبت عقائد أهله على أبين بصائرها، وتقلص ظل رجاء الكافر المبسوط، وصدق الله أهل دينه، فلما وقع الشرط حصل المشروط، وكان الدين غريباً فهو الآن في وطنه، والفوز معروضاً فقد بذلت الأنفس في ثمنه، وأمر أمر الحق وكان مستضعفاً، وأهل ربعه وكان قد عيف حين عفا، وجاء أمر الله وأنوف أهل الشرك راغمة، فأدلجت السيوف إلى الآجال وهي نائمة، وصدق وعد الله في إظهار دينه على كل دين، واستطارت له أنوار أبانت أن الصباح عندها حيان الحين، واسترد المسلمون تراثاً كان عنهم آبقاً، وظفروا يقظة بما لم يصدقوا أنهم يظفرون به طيفاً على النأي طارقاً، واستقرت على الأعلى أقدامهم، وخففت على الأقصى أعلامهم، وتلاقت على الصخرة قبلهم، وشفيت بها وإن كانت صخرة كما تشفى بالماء غللهم.
ولما كتب الذين عليها عرف منها سويداء قلبه، وهنأ كفؤها الحجر الأسود ببت عصمتها من الكافر بحربه. وكان الخادم لا يسعى سعيه إلا لهذه العظمى، ولا يقاسي تلك البؤسى إلا رجاء لهذه النعمى، ولا يناجز من يستمطله في حربه، ولا يعاتب بأطراف القنا من يتمادى في عتبه، إلا لتكون الكلمة مجموعة، والدعوة إلى مسامعها مرفوعة، فتكون كلمة الله هي العليا، وليفوز بجوهرة الآخرة لا بالعرض الأدنى من الدنيا، وكانت الألسنة ربما سلقته فأنضج قلوبها بالاحتقار، وكانت الخواطر ربما غلت عليه مراجلها فأطفأها بالاحتمال والاصطبار، ومن طلب خطيراً خاطر ومن رام صفقة رابحة تجاسر ومن سما لأن يجلي غمرة غامر، وإلا فإن القعود يلين تحت نيوب الأعداء المعاجم فتعضها، ويضعف بأيديها مهز القوائم فتقضها، هذا إلى كون القعود لا يقضي فرض الله في الجهاد، ولا يرعى به حق الله في العباد، ولا يوفى به واجب التقليد الذي تطوقه الخادم من أئمة قضوا بالحق ةبه كانوا يعدلون، وخلفاء الله كانوا مثل هذه اليوم لله يسألون، لا جرم أنهم أورثوا سرهم وسريرهم خلفهم الأطهر، ونجلهم الأكبر، وبقيتهم الشريفة، وطلعتهم المنيفة، وعنوان صحيفة فضلهم لا عدم سواد العلم وبياض الصحيفة، فما غأبوا لما حضر، ولا غضوا لما نظر، بل وصلهم الأجر لما كان به موصولاً، وشاطروه العمل لما كان عنه منقولاً ومنه مقبولاً، وخلص إليهم على المضاجع ما اطمأنت به جنوبها، وإلى الصحائف ما عبقت به جيوبها، وفاز منها بذكر لا يزال الليل به سميراً، والنهار به بصيراً، والشرق يهتدي بأنواره، بل إن أبدى نوراً من ذاته هتف به الغرب بأن وراه، فإنه نور لا تكنه أغساق السدف، وذكر لا تواريه أوراق الصحف.
وكتاب الخدم هذا، وقد ظفر الله بالعدو الذي تشظت قناته شفقاً، وطارت فرقه فرقاً، وفل سيفه فصار عصا، وصدعت حصاته وكان الأكثر عدداً وحصا، وكلت حملاته وكانت قدرة الله تصرف فيه العيان بالعنان، عقوبة من الله تعالى ليس لصاحب يد بها يدان، وعثرت قدمه وكانت الأرض لها خليفة، وغضت عينه وكانت عيون السيوف دونها كسيفة، ونام جفن سيفه وكانت يقظته تريق نطف الكرى من الجفون، وجدعت أنوف رماحه وطالما كانت شامخة بالمنى أو راعفة بالمنون، وأوضحت الأرض المقدسة الطاهرة وكانت الكامث، والرب المعبود الواحد وكان عندهم الثالث، فبيوت الشرك مهدومة، ونيوب الكفر مهتومة وطوائفه المحأمية مجتمعة على تسليم البلاد الحأمية، وشجعانه المتوافية، مذعنة لبذل المطامع الوافية، لا يرون في ماء الحديد لهم عصرة، ولا فناء الأفنية لهم نصرة، وقد ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وبدل الله مكان السيئة الحسنة، ونقل بيت عبادته من أيدي أصحاب المشأمة إلى أيدي أصحاب الميمنة.
وقد كان الخادم لقيهم اللقاة الأولى فأمده الله بمداركته، وأنجده بملائكته، فكرهم كسرة ما بعدها جير، وصرعهم صرعة لا ينتعش بعدها بمشيئة الله كفر، وأسر منهم من أسرت به السلاسل، وقتل منهم من فتكت به المناصل، وأجلت المعركة عن صرعى من الخيل والسلاح والكفار وعن أصناف يخيل بأنه قتلهم بالسيوف الأفلاق والرماح والأكسار، فنيلوا بثأر من السلاح ونالوه أيضاً بثار، فكم أهل سيوف تقارض الضراب حتى صارت كالعراجين، ثم أنجم أسنة تبادلت الطعان حتى صارت كالمطاعين، وكم فارسية ركض عليها فارسها الشهم إلى أجل فاختلسه، وفغرت تلك القوس فاها فإذا فوها قد نهش القرن على بعد مسافة فافترسه، وكان اليوم مشهوداً وكانت الملائكة شهوداً، وكان الكفر مفقوداً والإسلام مولوداً، وجعل الله ضلوع الكفار لنار جهنم وقوداً. وأسر الملك بيده أوثق وثاقه، وآكد وصله بالدين وعلائقه، وهو صليب الصلبوت، وقائد أهل الجبروت، وما دهموا قط بأمر إلا قام بين دهمائهم يبسط لهم باعه، ويحرضهم وكان مد اليدين في هذه ظل ظلامه خشاشهم، ويقاتلون تحت ذلك الصليب أصلب قتال وأصدقه، ويرونه ميثاقاً يبنون عليه أشد عقد وأوثقه، ويعدونه سوراً تحفر حوافر الخيل خندقه.
وفي هذا اليوم أسرت سراتهم، وذهبت دهاتهم، ولم يفلت منهم معروف إلا القومص، وكان لعنه الله ملياً يوم الظفر بالقتال، وملياً يوم الخذلان بالاحتيال، فنجا وكان كيف؟ وطار خوفاً من أن يلحقه منسر الرمح أو جناح السيف، ثم أخذه الله تعالى بعد أيام بيده، وأهلكه لموعده، فكان لعدتهم فذالك، وانتقل من ملك الموت على مالك.
وبعد الكسرة مر الخادم على البلاد فطواها بما نشر عليها من الراية العباسية السوداء صبغاً، والبيضاء صنعاً، الخافقة هي وقلوب أعدائها، الغالبة هي وعزائم أوليائها المستضاء بأنوارها إذا فتح عينها البشر، وأشارت بأنامل العذبات إلى وجه النصر، فافتتح بلد كذا وكذا وهذه كلها أمصار ومدن، وقد تسمى البلاد بلاداً وهي مزارع وفدن، وكل هذه ذوات معاقيل ومعاقر، وبحار وجزائر، وجوامع ومنابر، وجموع وعساكر، يتجاوزها الخادم بعد أن يحرزها، ويتركها وراءه بعد أن ينتهزها ويحصد منها كفراً ويزرع إيماناً، ويحط من منائر جوامعها صلباناً ويرفع أذاناً، ويبدل امذابح منابر والكنائس مساجد، ويبوئ بعد أهل الصلبان أهل القآن للذب عن دين الله مقاعد، ويقر عينه وعيون أهل الإسلام أن تعلق النصر منه ومن عسكره بجار ومجرور، وأن ظفر بكل سور ما كان يخاف زلزاله وزياله إلى يوم النفخ في الصور، ولما لم يبق إلا القدس وقد اجتمع إليها كل شريد منهم وطريد، واعتصم بمنعتها كل قريب منهم وبعيد، وظنوا أنها من الله مانعتهم، وأن كنيستها إلى الله شافعتهم، فلما نازلها الخادم رأى بلداً كبلاد، وجمعاً كيوم التناد، وعزائم قد تألبت وتألفت على الموت فنزلت بعرصته، وهان عليها مورد السيف وأن تموت بغصته، فزوال البلد من جانب فإذا أودية عميقة، ولجج وعرة غريقة، وسور قد انعطف عطف السوار، وأبرجة قد نزلت مكان الواسطة من عقد الدار، فعدل إلى جهة أخرى كان للمطامع عليها معرج، وللخيل فيها متولج، فنزل عليها، وأحاط بها وقرب منها، وضرب خيمته بحيث يناله السلاح بأطرافه، ويزاحمه السور بأكنافه، وقابلها ثم قاتلها، ونزلها ثم نازلها، وبرز إليها ثم بارزها، وحاجزها ثم ناجزها، فضمها ضمة ارتقاب بعدها الفتح، وصدعأهلها فإذا هم لا يبصرون على عبودية الخد عن عتق الصفح، فراسلوه ببذل قطيعة إلى مدة، وقصدوا نظرة من شدة وانتظاراً لنجدة، فعرفهم الخادم في لحن القول، وأجابهم بلسان الطول، وقدم المنجنيقات التي تتولى عقوبات الحصون عصيها وحبالها، وأوتر لهم قسيها التي تضرب فلا تفارقها سهامها، ولا يفارق سهامها نصالها، فصافحت السور بأكنافه فإذا سهمها في ثنايا شرفاتها سواك، وقدم النصر نسراً من المنجنيق يخلد إخلاده إلى الأرض ويعلو علوه إلى السماك، فشج مرادع أبراجها، وأسمع صوت عجيجها صم أعلاجها، ورفع مثار عجاجها فأخلى السور من السيارة، والحرب من النظارة، فأمكن النقاب، أن يسفر للحرب النقاب، أن يعيد الحجر إلى سيرته الأولى من التراب، فتقدم إلى الصخر فمضغ سرده بأنياب معوله، وحل عقده بضربه الأخرق الدال على لطافة أنمله، وأسمع الصخرة الشريفة حنينه واستغاثته إلى أن كادت ترق لمقبله وتبرأ بعض الحجارة من بعض، وأخذ الخراب عليها موثقاً فلن تبرح الأرض، وفتح في السور باباً سد من نجاتهم أبواباً، وأخذ ينقب في حجره فقال عنده الكافر: {يا ليتني كنت تراباً} فحينئذ يئس الكفار من أصحاب الدور، كما يئس الكفار من أصحاب القبور، وجاء أمر الله وغرهم بالله الغرور.
وفي الحال خرج طاغية كفرهم، وزمام أمرهم ابن بارزان سائلاً أن يؤخذ البلد بالسلام لا بالعنوة، وبالأمان لا بالسطوة، وألقى بيده إلى التهلكة، وعلاه ذل الملكة بعد عز المملكة، وطرح جبينه في التراب وكان جبيناً لا يتعاطاه طارح، وبذل مبلغاً من القطيعة لا يطمح إليه طرق آمل طامح، وقال: هاهنا أسارى مؤمنون يتجاوزون الألوف، وقد تعاقد الفرنج على أنهم إن هجمت عليهم الدار، وحملت الحرب على ظهورهم الأوزار، بدئ بهم فعجلوا، وثني بنساء الفرنج وأطفالهم فقتلوا، ثم استقلوا بعد ذلك فلم يقتل خصم إلا بعد أن ينتصف، ولم يسل سيف من يد إلا بعد أن تنقطع أو ينقصف، وأشار الأمراء بالأخذ بالميسور، فإنه إن أخذ حرباً فلا بد أن تقتحم الرجال الأنجاد، وتبذل أنفسها في آخر أمر قد نيل من أوله المراد. وكانت الجراح في العساكر قد تقدم منها ما اعتقل الفتكات، واعتاق الحركات، فقبل منهم المبذول عن يد وهم صاغرون، وانصف أهل الحرب عن قدرة وهم ظاهرون، وملك الإسلام خطة كان عهده بها دمنة سكان، فخدمها الكفر إلى أن صارت روضة جنان، لا جرم أن الله أخرجهم منها وأهبطهم، وأرضى أهل الحق وأسخطهم، فإنهم خذلهم الله حموها بالأسل والصفاح، وبنوها بالعمد والصفاح، وأودعوا الكنائس بها وبيوت الديوية والاستبارية، منها كل غريبة من الرخام الذي يطرد ماؤه، ولا يطرد لألاؤه، وقد لطف الحديد في تجزيعه، وتفنن في توشيعه، إلى أن صار الحديد الذي فيه بأس شديد، كالذهب الذي فيه نعيم عتيد، فما ترى إلا مقاعد كالرياض لها من بياض الترخيم رقراق، وعمداً كالأشجار لها من التنبيت أوراق.
وأعز الخادم برد الأقصى إلى عهده المعهود، وأقام له من الأئمة من يوفيه ورده المورود، وأقيمت الخطبة يوم الجمعة رابع شهر شعبان فكادت السموات يتفطرن للسجوم لا للوجوم، والكواكب منها ينثرن للطرب لا للرجوم، ورفعت إلى الله كلمة التوحيد وكانت طرائقها مسدودة، وظهرت قبور الأنبياء وكانت بالنجاسات مكدودة، وأقيمت الخمس وكان التثليث يقعدها وجهرت الألسنة بالله أكبر وكان سحر الكفر يعقدها وجهر باسم أمير المؤمنين في وطنه الأشرف من المنبر، فرحب به ترحيب من بر بمن بر، وخفق علماه في حفافيه، فلو طار سروراً لطار بجناحيه.
وكتاب الخادم وهو مجد في استفتاح بقية الثغور، واستشراح ما ضاق بتمادي الحرب في الصدور، فإن قوى العساكر قد استنفذت مواردها وأيام الشقاء قد دمرت مواردها والبلاد المأخوذة المشار إليها قد جاست العساكر خلالها، ونهبت ذخائرها وأكلت غلالها، في بلاد ترفد ولا تسترفد، وتجم ولا تستنفذ، وينفق عليها، ولا ينفق منها، وتجهز الأساطيل لبحرها، وتقام المرابط لبرها، ويدأب في عمارة أسوارها، ومرمات معاقلها، وكل شقة فهي بالإضافة إلى نعمة الله الفتح محتملة، وأطماع الفرنج فيما بعد ذلك مذاهبها غير مرجئة ولا معتزلة، فلن يدعو دعوة يرجو الخادم من الله أنها لا تسمع، ولن تزول أيديهم من أطواق البلاد حتى تقطع.
وهذه البشائر لها تفاصيل لا تكاد من غير الألسنة تتشخص، ولا بما سوى المشافهة تتلخص. فلذلك نفذنا لساناً شارحاً، ومبشراً صادحاً، ينشر الخبر على سياقته، ويعرض جيش المسرة من طليعته إلى ساقته.
قلت: وقد وقفت على نسخة كتاب كتب به عن المكتفي بالله، عندما بعث محمد بن سليمان الكاتب إلى الديار المصرية، فانتزعها من يد بني طولون واستولى عليها الخليفة، في نحو كراسة، تاريخها سنة اثنتين وتسعين ومائتين، أولها: أما بعد فالحمد لله العلي الكبير، العزيز القدير، وأضربت عن ذكرها لطولها.
الصنف الثامن: المكاتبة بالاعتذار عن السلطان في الهزيمة:
قال في مواد البيان: من أخلاق العامة تقبيح سيرة السلطان إذا زل في بعض آرائه، والإزراء على تدبيره في جيش يجهزه فيكسر، ونحو ذلك، مما لا يسلم من مثله، والإضافة فيه والتشنيع به، فيحتاج إلى مكاتبتهم بما يتلاقى الوهن ويقيم العذر، كما يكاتبهم بتفخيم المنح، وتعظيم الفتوحات، والتحدث بمواقع المواهب، وشكر الله تعالى على إسباغ النعم، والإظفار بأعداء الدين والدولة ليقوي بذلك منتهم، ويرهف بصائرهم ويستخلص طاعتهم، ويملأ صدورهم رهبة. قال: وليست لهذه الكتب رسوم ينتظم كل ما وقع فيها، لاختلاف ما يلام فيه ويعتذر.
ثم قال: ونحن نرسم في أصوله قولاً وجيزاً، وهو أن يقتضب الكاتب له المعاذير التي تحسن أحدوثته، وتستر زلته، والحجج التي تعيد اللائم عاذراً، والذام شاكراً، وتوجب التقريظ من حيث يجب التأنيب، والإحماد من حيث يستحق التذنيب. مثل أن يعتذر عن هزيمة جيش، فيقول: وقد علمتم أم الحرب سجال، والدنيا دول تدال، وقد تهب ريح النصر للقاسطين على المقسطين امتحاناً من الله وبلوى، ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، من غير أن يصرح بباطل، ولا يطلق كذباً محضاً، ولا يختلق زوراً يعلم الناس خلافه، فتتضاعف الهجنة، وتتكاثف المحنة، فإنه لا شيء أقبح على السلطان وأقدح من جلالة الشان، من أن يعثر في كتبه على إفك قد يعلمه بعض من يقف عليه، بل ينبغي أن يعتمد في ذلك حسن التخلص والتورية عن الغرض، واستعمال الألفاظ التي تدل على أطراف الحال ولا تفصح بحقائقها.
وهذه نسخة لله الذي ساس الأمور بحكمته، وأبان فيها مواقع قدرته، وسلك فيها طريق مشيئته، وصرفها على ما رآه عدلاً بين العباد في أقسام نعمته ومحنته، وأحوال بلواه وعافيته، وجعل الأيام فيهم نوباً، والأحوال بينهم عقباً، فخص أولياءه وأهل طاعته بالنصر في المحاكمة، والصلح عند المخاصمة، والظهور على من شاقهم وعاداهم، والقهر لمن ضادهم وناواهم، وإنجازاً لما وعد به الصابرين المحتسبين، وإعزازاً للدين وأنصاره من المؤمنين، ولم يخبل أعداءه من دولة أدالها لهم، وجولة على الحق زادها في طغيانهم، ووصل الإملاء لهم فيها بخذلانهم، ليجب الثواب للمحسنين، ويحق العذاب على الكافرين. فقال في محكم كتابه- وقد ظهر المشركون على المسلمين- {إن يمسسكم قرح فقد مس قوم قرح مثله} وتلك الأيام نادأولها بين الناس. وقال: {ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين}، وناب بين الفرقين في المصائب والمواهب، والمسار والمضار، ليشفي الله صدور المؤمنين، وليمحص ما في قلوبهم، ويوجب لهم إخلاص السرائر في طاعته، والجهاد في سبيله، والنصرة لرسوله، والمراماة عن دينه، والمدافعة عن حريمه، ضعف الثواب وحسن المآب، ويحل بالمشركين ما أعد لهم في دار الجزاء من أليم العذاب.
وإذا كان الحال بين الفريقين المتلاقيين، والفئتين المتجاورتين، والحزبين المتحاكمين، في تعاور الغلبة وتعاقب الدولة، جارياً على تقدير الله ومتصرفاً على حكمه، ومستوسقاً على ما سبق في علمه، فليس يغني في ذلك زيادة عدد، ولا اتصال مدد، ولا قوة أيد، ولا لطف كيد، ولا اختيار وقت محمود للقتال، ولا الانتخاب لأهل البسالة والنجدة من الرجال، ولا يجب أن يستريث النصر من أبطأ عنه، ويستشعر الجزع من نال خصمه منه، بعد تحصيله السلامة في نفسه، وقيام العذر له بعنايته وجده، وقد جمع الله للأمير من المناقب، التي ورثها عن آبائه، وحازها في صدره، والحيازة فيما بان من فضل بأسه، وثبات جأشه، وأصالة رأيه، وصحة تدبيره، وإيفائه الحرب شروطها، والهيجاء حقوقها، من الحزم والتؤدة، والإقدام عند الفرصة، والإصابة في التقدير والتعبير، والاحتياط في سد موقع الخلل والعورة، وإعمال النظر والروية، لولا اعتراض القضاء الذي هو مالك نواصي العباد، وغير مدفوع بمحال ولا جلاد، ولا قوة ولا عدة ولا عتاد ما أوفى حسنه على مزية الظفر، وزاد عظمه في السناء والخطر، إلى ما شمل عسكره في منقلبه بمراعاته لهم، ومدافعته من ورائهم، حتى توافى الجمع موفورين، وآبوا سالمين غانمين، وبالله الحول والقوة وعليه ضمان الإدالة على ما جرى به وعده الصادق وأخبر عنه كتابه الناطق، وهو حسب أمير المؤمنين وكافيه، وناصره وواليه، ونعم الوكيل والظهير، والمولى والنصير، وصلى الله على سيدنا محمد سيد المرسلين، وإمام المتقين، وآله الطيبين أجمعين، وسلم تسليما.
وفي مثله من إنشاء أحمد بن سعيد: أحكام الله جل جلاله جارية على سبل جامعة لوجوده الحكمة، منتظمة لأسباب الصلاح والمعدلة. فمنها ما عرف الله أولياءه والمندوبين بطاعته، والمجموعين بهدايته، طريق المراد منه وسبب الداعي إليه، والعلة فيما قضي من ذلك لحينه، والصورة المقتضية له. ومنها ما استأثر بعلمه، وطوى عن الخلق معرفة حاله، فهو وإن أشكل عليهم موضع الحاجة إليه، وموقع العائدة به، ورؤي بهم اضطراباً في ظاهرة عند تأملهم إياه بمقادير عقولهم، ومبالغ أفهامهم فبني على أوثق أساس الحكمة، وأثبت أركان الصواب على الجملة وكيف لا يكون كذلك؟ والله خالق الأشياء كلها، وعالم بها قبل كونها، في أحوال تكوينه إياها وبعده في منزع غاياتها ومقضي عواقبها، فليس تخفى عليه خافية، ولا تعزب عنه دانية ولا قاضية، ولا يسقط عن معرفته فصل ما بين الخاطرين والوهمين في الخير والشر وما بين الجبلين والدربين في الوفور والغمور، فكيف بما يبرزه الظهور، ويخبر فيه عن موضع التدبير، المحتاج فيه إلى إحكام الصنعة وإتقان التقدير؟ ومن ظن أن شيئاً من ذلك يخرج عن نهج الصواب، ويخالف طريق الصلاح، فقد ضل من حيث ضلل، وغلط من حيث غلط، واتصل سوء ظنه، وفساد فكره، بالزراية على فعل ربه، تعالى عن قول المبطلين، ورجم الشياطين.
ثم إن لله جل جلاله عادة في الجيشين المتحاربين، والحزبين المتحاكمين، من عباده المؤمنين، وأضدادهم المفسدين الملحدين في المدأولة بينهما، والمعاقبة بين الفئتين منهما في العجز والظهور، والوفاء والقصور، والمعافاة والامتحان، والنصر والخذلان، والإعلاء لراية الحق في حال، والإملاء للباطل في أخرى، بتضمين الخيرة لأوليائه، والدائرة على أعدائه، عاجلاً بالتمحيص لهؤلاء، وبالمحق لأولئك، بما يصل إليهم من مصيبته، وينوبهم في حاضر الدنيا من رغبته، ويحل العادين من المشركين دار الفاسقين، ويجعل العاقبة للمتقين، ومن سعد بقسم من التوفيق، وحظ من فائدة الإرشاد، فليس في هذه الحالة بزيادة أنصار وعدة، وفضل عتاد وعدة، وبسالة ونجدة وأيد وقوة وسعة وبسطة، ولا يعدو أن يسلم لله تعالى قاضياً له وعليه ويوفى بإحدى الحسنيين من علوه، أو غلبه عدوه أو يتوكل عليه، وهو حسبه منعماً، وممتحناً ومعافياً ومسلماً، ونعم الوكيل.
قلت: وهذا الصنف من المكاتبات السلطانية مستعمل بين الكتاب، دائر في مصطلحاتهم إلى الآن. وللشيخ شهاب الدين محمود الحلبي في ذلك تفننات كثيرة، أورد بعضها في كتابة حسن التوسل. فمن ذلك. ما شاء أنشأه فيمن هزم هو وجيشه، يتضمن إقامة عذره، ووصف اجتهاده، ويحث على معاودة عدوه، والطلب بثاره، وهو: هذه المكاتبة إلى فلان: لازال مأمون الغرة، مأمول الكرة، مجتنياً حلو الظفر من أكمام تلك المرة المرة، راجياً من عواقب الصبر أن يسفر له مساء تلك المساءة عن صبح المسرة، واثقاً من عوائد نصر الله بإعادته ومن معه في القوة والاستظهار كما بدأهم أول مرة.
أصدرناها وقد أتصل بنا نبأ ذلك المقام الذي أوضحت فيه السيوف عذرها، وأبدت به الكماة صبرها، وأظهرت فيه الحماة من الوثبات والثبات ما يجب عليها، وبذلت فيه الأبطال من الجلاد جهدها ولكن لم يكن الظفر إليها، وكان عليهم الإقدام على غمرات المنون، والاصطلاء بجمرات الحرب الزبون، ولم يكن عليهم إتمام ما قدر أنه لا يكون، فكابرت رقاب الأعداء في ذلك الموقف السيوف، وكاثرت أعدادهم الحتوف، وتدفقت بحارهم على جدأول من معه ولولا حكم القدر لانتصفت تلك الآحاد من تلك الألوف، فضاق بازدحام الصفوف على رجاله المجال، وزاد العدد على الجلد فلم يفد له الإقدام على الأوجال مع قدوم الآجال، وأملي للكافرين بما قدر لهم من الإنظار، وحصل لهم من الاستظهار، وعوضوا بما لم يعرفوه من الإقدام عما ألفوه من الفرار. {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض}، وقد ورد أنهم ينصرون كما ننصر، وإذا كانت الحروب سجالاً فلا ينسب إلى من كانت عليه وبالا إذا اجتهد ولم يساعده القدر أنه قصر، مع أنه قد أشتهر بما فعله في مجاله، من الذب عن رجاله، وما أبداه في قتاله، من الضرب الذي ما تروى فيه خصمه إلا بدره بارتجاله، وأن الرماح التي امتدت إليه أخرس سيفه ألسنة أسنتها، والجياد التي أقدمت عليه جعل طعنة أكفالها مكان أعنتها، فأثبت في مستنقع الموت رجله، ووقف وما في الموت شك لواقف ليحمي خيله ورجله، حتى تحيز أصحابه إلى مأمنهم، وأقام نفسه دونهم دريئة لمن بدر من سرعان القوم أو ظهر من مكمنهم، وهذا هو الموقف الذي قام له مقام النصر، إذ فاته النصراء وفاته النصر، والمقام الذي أصيب فيه من أصحابه آحاد يدركهم أدنى العدد وفقد فيه من أعدائه مع ظهورهم ألوف لا يدركهم الحصر، وكذا فليكن قلب الجيش كالقلب يقوى بقوته الجسد، وإذا حق اللقاء فلا يفر عن كناسه إلا الظبي ولا يحمي عرينه إلا الأسد، وما بقى إلا أن تعفو الكلوم، وتثوب الحلوم، وتندمل الجراح، وتبرأ من فلول المضارب صدور الصفاح، وتنهض لاقتضاء دين الدين، من غرمائه المعتدين، وتبادر إلى استنجاز وعد الله بأن الله يمحص المؤمنين، ويمحق الكافرين، والليث إذا جرح كان أشد لثباته، وأمد لوثباته، والموتور لا يصطلى بناره، والثائر لا يرهب الإقدام على المنون في طلب ثاره، والدهر ذو دول، والزمان متلون إن دجت عليكم منه بالقهر ليلة واحدة فقد أشرقت لكم منه بالنصر ليال أول، فالمولى لا يلفت إلى ما فات، ويقبل بفكره على تدبير ما هو آت، ويعد للحرب عدته، ويعجل أمد الاستظهار ومدته، ولا يؤخر فرصة الإمكان، ولا يعيد ذكر ما مضى فإنه دخل في خبر كان، ولا يظهر بما العاجز من ظن أنه يصيب ولا يصاب، ولا يتخذ غير ظهر حصانه حصاناً فلا حرز أمنع من صهوة الجواد ولا سلم أسلم من الركاب، وليعلم أن العاقبة للمتقين، ويدرع جنة الصبر ليكون من النصر على ثقة ومن الظفر على يقين، فإن الله مع الصابرين، ومن كان الله معه كانت يده الطولى، وإذا لقي عدو الله وعدوة فليصبر لحملته فإن الصبر عند الصدمة الأولى والله تعالى يكلؤه بعينه، ويمده بعونه، ويجعل الظفر بعدوه موقوفاً على مطالبته له بدينه.
ومن ذلك ما كتبه على لسان المهزوم يتضمن الاعتذار، ويصف الاحتفال بأخذ الثار:
هذه المكاتبة إلى فلان: أتبع الله ما ساءه من أمرنا مع العدو بما يسره، وبلغه عنا من الانتصاف والانتصار ما يظهر من صدور الصفاح وألسنة الرماح سره، وأراه من عواقب صنعه الجميل بنا ما يتحقق به أن كسوف الشمس لا ينال طلعتها وأن سرار القمر لا يضره. توضح لعلمه أنه ربما اتصل به خبر تلك الواقعة التي صدقنا فيها اللقاء، وصدمنا العدو صدمة من لا يحب البقاء، وأريناه حرباً لو أعانها التأييد فللت جموعه، وأذقناه ضرباً لو أن حكم النصر فيه إلى النصل أوجده مصارعه وأعدمه رجوعه. وحين شرعت رياح النصر تهب، وسحاب الدماء من مقاتلهم تصوب وتصب، وكرعت الصفاح في موارد نحورهم، وكشف الرماح خبايا صدورهم، وما بقي إلا أن تستكمل سيوفنا الري من دمائهم، وتقف صفوفنا على ربوات أشلائهم، وتقبض بالكف من صفحت الصفاح عن دمه، وتكف بالقبض يد من ألبسته الجراح حلة عندمه أظهروا الخرع في عزائمهم، وحكموا الطمع في غنائمهم، فحصل لجندنا عجب أعجل سيوفنا أن تتم هدم بنائهم. وطمع منع جيوشنا أن تكف عن النهب إلى تصير من ورائهم، فاغتنم العدو تلك الغفلة التي ساقها المهلكان، العجب والطمع، وانتهز فرصة الإمكان، التي أعانه عليها المطمعان إبداء الهلع، وتخلية ما جمع فانتثر من جمعنا بعض ذلك العقد المنظم وانتقض من حزبنا ركن ذلك الصف الذي أخذ فيه الزحام بالكظم، وثبت الخادم في طائفة من ذوي القوة في يقينهم، وأرباب البصائر في دينهم، فكسرنا جفون السيوف، وحطمنا صدور الرماح في صدور الصفوف، وأرينا تلك الألوف كيف تعد الآحاد بالألوف، وحلنا بين العدو وبين أصحابنا بضرب يكف أطماعهم، ويرد سراعهم، ويعمي ويصم عن الآثار والأخبار أبصارهم وأسماعهم، إلى أن نفسنا للمنهزم عن خناقه وآيسنا طالبه عن لحاقه، ورددناه عنه خائباً بعد أن كادت يده تعتلق بأطواقه، وأحجم العدو مع ما يرى من قلتنا عن الإقدام علينا، ورأى منا جداً كاد لولا كثرة جمعه يستسلم به إلينا، وعادوا ولنا في قلوبهم رعب يثنيهم وهم الغالبون، ويدركهم وهم الطالبون ويسلبهم رداء الأمن وهم السالبون، وقد لم الخادم شعث رجاله وضم فرقهم بذخائر ماله، وأمدهم بنفقات أصلحت أحوالهم وأطلقت في طلب عدو الله أقوالهم، وسلاح جدد استطاعتهم وأعان شجاعتهم، وخيول تكاد تسابقهم إلى طلب عدوهم وتحضهم على أخذ حظهم من اللقاء كأنها تساهمهم في أجر رواحهم وغدوهم، وقد نضوا رداء الإعجاب عن أكتافهم، واعتصموا بعون الله وتأييده لا بقوة جلدهم ولا بحد أسيافهم وسيعجلون العدو إن شاء الله تعالى عن اندمال جراحه ويتعجلون إليه بجيوش تسوء طلائعها في مسائه وتصبحه كتائبها في صباحه، والله تعالى لا يكلنا إلى جلدنا، ولا ينزع أعنة نصره من يدنا.
الصنف التاسع: المكاتبة بتوبيخ المهزوم وتقريعه والتهكم به:
وهذا النوع من المكاتبات قليل الوقوع، ولذلك لم يتعرض إليه في مواد البيان. والذي ينبغي أن تبنى المكاتبة فيه عليه ذكر هزيمة المهزوم وما استولى عليه من الغلبة والقهر، وصورة الحال في النصرة عليه، والاستيلاء على بلاده وأمواله وسائر ذات يده، وأسر رجاله، واسترقاق ذراريهم ونسائهم، وما يجري مجرى ذلك، مما في إيلام خاطره، وتقطيع قلبه حسرات على ما ناله، ونحو ذلك مما يدعو المكتوب إليه إلى الطاعة، ويوجب الانقياد.
وهذه نسخة كتاب من هذه النمط، كتب به القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر رحمه الله، إلى البولس سمند ملك الفرنج، المستولي على طرابلس من الشام، وأنطاكية من بلاد العواصم حين غزاه الملك في طرابلس، ثم قصد أنطاكية فأخذها في عانيه، وهي:
قد علم المقوص الجليل المنتقلة مخاطبته- بأخذ أنطاكية منه- من البولسية إلى القومصية، ألهمه الله رشده، وقرن بالخير قصده، وجعل النصيحة محفوظة عنده، ما كان من قصدنا طرابلس وغزونا له في عقر الدار، وما شاهده بعد رحيلنا من إخراب العمائر وهدم الأعمار، وكيف كنست تلك الكنائس من على بساط الأرض ودارت الدوائر على كل دائر، وكيف جعلت تلك الجوائز من الأجساد على ساحل البحر كالجزائر، وكيف قطرت الرجال واستخدمت الأولاد وتملكت الحائر، وكيف قطعت الأشجار ولم يترك إلا ما يصلح لأعواد المجانيق- إن شاء الله تعالى- والستائر، وكيف نهبت لك ولرعيتك الأموال والحريم والأولاد والحواشي، وكيف استغنى الفقير وتأهل العازب واستخدم الحريم وركب الماشي، هذا وأنت تنظر نظر المغشي عليه من الموت، وإذا سمعت صوتاً قلت فزعاً: علي هذا الصوت، وكيف رحلنا عنك رحيل من لا يعود، وأخرناك إلى ما كان تأخيرك إلا لأجل معدود، وكيف فارقنا بلادك وما بقيت فيها ماشية، إلا وهي لدينا ماشية، ولا جارية، إلا وهي في ملكنا جارية، ولا سارية، إلا وهي في أيدي المعاون سارية، ولا زرع إلا وهو محصود، ولا موجود إلا وهو أنك مفقود، وما منعت تلك المغاير التي هي في رؤوس الجبال الشاهقة، ولا تلك الأودية التي في الختوم مخترقة وللعقول خارقة، وكيف سقنا عنك ولم يسبقنا إلى مدينتك أنطاكية خبر، وكيف وصلنا إليها وأنت لا تصدق أننا نبعد عنك وإن بعدنا فسنعود على الأثر، وها نحن نعلمك بما تم، ونفهمك بالبلاء الذي عم.
كان رحيلنا عنك من طرابلس يوم الأربعاء، ونزولنا أنطاكية في شهر رمضان، وفي حال النزول خرجت عساكرك للمبارزة وتناصروا فما نصروا، وأسر من بينهم كيد اسطيل فسأل في مراجعة أصحابك، فدخل إلى المدينة، وخرج وهو وجماعتك من رهبانك، وإن رأيهم في الخير مختلف، وقولهم في الشر واحد، فلما رأيناهم قد فات فيهم الفوت، وأنهم قد قدر الله عليهم الموت، رددناهم وقلنا: نحن الساعة لكم نحاصر، وهذا الأول في الإنذار والآخر، فرجعوا به متشبهين بفعلك، ومعتقدين أنك تدركهم بخيلك ورجلك، ففي بعض ساعة مرشان المرشان، وداخل الرهب والرهبان، ولان للبلاء القسطلان، وجاءهم الموت من كل مكان، وفتحنا بالسيف في الساعة الرابعة من يوم السبت رابع شهر رمضان، وقتلنا كل من اخترته لحفظها والمحاماة عنها، وما كان أحد منهم إلا وعنده شيء من الدنيا فما بقي أحد منا إلا وعنده شيء منهم ومنها، فلو رأيت خيالتك وهي صرعى تحت أرجل الخيول، وديارك والنهاية فيها تصول والكسابة فيها تجول، وأموالك وهي توزن بالقنطار، وإماؤك كل أربع منها تباع فتشترى من مالك بدينار، ولو رأيت كنائسك وصلبانها قد كسرت ونثرت، وصحائفها من الأناجيل المزورة قد نشرت، وقبور البطارقة وقد تغيرت، ولو رأيت عدوك المسلم وقد داس مكان القداس، والمذابح وقد ذبح فيها الراهب والقسيس والشماس، والبطارقة وقد دهموا بطارقة، وأبناء المملكة وقد دخلوا في المملكة، ولو شاهدت النيران وهي في قصورك تخترق، والقتلى بنار الدنيا قبل نار الآخرة تحترق، وقصورك وأحوالها قد حالت، وكنيسة بونصر وكنيسة القسيان وقد زلت كل منها وزالت، لكنت قلت: يا ليتني كنت تراباً، ويا ليتني لم أوت بهذا الخبر كتاباً، ولكانت نفسك تذهب من حسرتك، ولكنت تطفئ تلك النيران بماء عبرتك، ولو رأيت مغانيك وقد أقفرت، ومراكبك وقد أخذت في السويدية بمراكبك، لصارت شوانيك من شوانيك، ولتيقنت أن الإله الذي أنطاك النطاكية منك استرجعها، والرب الذي أعطاك قلعتها منك قلعها ومن الأرض اقتلعها، ولتعلم أنا قد أخذنا- بحمد الله- منك ما كنت أخذته من حصون الإسلام، وهو دركوش، وشقيف تل منس، وشقيف كفردبين، وجميع ما كان لك في بلاد أنطاكية في هذه المدة إقامة، وكونك ما كنت بها، فيكون إما قتيلاً، وإما أسيراً، وإما جريحاً وإما كسيراً، وسرلامة النفس هي التي يفرح بها الحي إذا شاهد الأموات، ولعل الله إنما أخرك لأن تستدرك من الطاعة والخدمة ما فات، ولما لم يسلم أحد يخبرك بما جرى خبرناك، ولما لم يقدر أحد أن يباشرك بالبشرى بسلامة نفسك وهلاك ما سواك باشرناك بهذه المفاوضة وبشرناك، لتتحقق الأمر على ما جرى، وبعد هذه المكاتبة لا ينبغي لك أن تكذب لنا خبراً، كما أن بعيد هذه المخاطبة يجب أن لا تسأل عما جرى.
وهذه نسخة في هذا المعنى، من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي، وهي: هذه المكاتبة إلى فلان أقاله الله عثرة زلته، وأقامه من حفرة ذلته، وتجاوز له عن كبير فراره من جمع عدوه على قلته. بلغنا أمر الواقعة التي لقي فيها العدو بجمع قليل غناؤه، ضعيف بناؤه، كثيف في رأي العين جمعه، خفيف في المعنى وقعه ونفعه، أسرع في مفارقة المجال، من الظل في الانتقال، وأشبه في مماثلة الوجود بالعدم من طيف الخيال يمشون إليه بقلب واحد، ويهتدون من تخرصه برأي بينه وبين الصواب ألف حاجب، ويأتمون منه بمقدم يرى الواحد من عدوه كألف، ويتسرعون منه وراء مقدام يمشي إلى الزحف ولكن إلى خلف، جناح جيشه مهيض، وطرف سنانه غضيض، وساقة عسكره طالعة، وطلائعه كالنجوم ولكن في حال كونها راجعة، تأسف السيوف بيمينه على ضارب، وتأسى الجنائب حوله إذ تعد لمحارب فتعد لهارب، وأنه حين وقعت العين على العين، وأيقن عدوه لما رأى من عدده وعدده معاجلة الحين، أعجل نصول العدا عن وصولها، وترك غنيمة الظفر لعداه بعد أن أشرف على حصولها، تناديه ألسنة أسنته: الكرة الكرة فلا يلوي إلى ندائها، وتشكو إليه سيوف الظمأ وقد رأت مورد الوريد فيردها إلى الغمود بدائها، فمنح عدوه مقاتل رجاله، وأباحهم كرائم مال جنده وماله، وخلى لهم خزائن سلاحه التي أعدها لقتالهم فأصبحت معدة لقتاله، فنجا منجى الحارث ابن هشام، وآب بسلامة أعذب منها- لو عقل- شرب كأس الحمام، واتسم بين أوليائه وأعدائه بسمة الفرار، وكان يقول: النار لا العار، فجمع له فراره من الزحف بين النار والعار، وعاد بجمع موفور من الجراح، موقر من الإثم والاجتراح لا علم بما جرى عند أسيافهم ولا شاهد بمشاهدتهم الوغى غير مواقع الظبا في أكتافهم، فبأي جنان يطمع في معاودة عدوه من هذا قلبه، وهؤلاء حزبه، وذلك القتال قتاله وتلك الحرب حربه.
وبعد، فإن كانت له حمية فستظهر آثارها، أو أريحية نارها، أو أنفة فستحمله على غسل هذه الدنية، وتبعثه على طلب غايتين: إما الشهادة مريحة أو حياة هنيئة، والله تعالى يوقظ عزمه من سنته، ويعجل له الانصاف من عدوه قبل إكمال سنته.
الصنف العاشر في المكاتبات بالتضييق على أهل الجرائم:
قال في مواد البيان: لم يزل السلطان يكتب إلى الولاة عندما كان ينتهي إليه من إقدام الرعايا على ارتكاب الجرائم، واستباحة المحارم، واقتراف المآثم، كالزنا واللواط، وشرب الخمر، وقطع الطرق، والغصب والتظالم، وما يجري هذا المجرى بالتضييق عليهم، وإقامة حدود الله تعالى فيهم.
قال: والرسم فيها أن تفتتح بحمد الله البادئ بنعمته قبل افتراض طاعته، الممتن بفضله قبل إيجاب شكره، خالق الخلائق جوداً وكرماً، وموسعهم مناً ونعماً، الذي اختار دين الإسلام وطهره من الأرجاس، ونزهه عن الأدناس، واختص به صفوته من الناس، وابتعث به محمداً سيد المرسلين: لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين.
ويحده أمير المؤمنين أن فوض إليه إيالة خلفه، وأقدره على القيام بخدمته، ونصبه لإعزاز دينه، والمحافظة على مفروضه ومسنونه، وذيادة العباد عن محارمه التي نهى عن التعدي إليها، وإقامة الحدود عليهم فيها، ويسأله الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم يقال: إن أمير المؤمنين يرى أن من أعظم نعم الله تعالى عليه توفيق لحفظ ما استحفظه من شريعته، ورعاية ما استرعاه من بريته، وتوفير القيام على من قلده النظر فيهم، واعتماد ما يعود بالصلاح في الدين والدنيا عليهم، ومساواته بين قريبهم وبعيدهم في تفقده، ومماثلته بين قاصيهم ودانيهم في تعهده، فلا ينال القريب فقط نصيباً من رعايته ويعلم جاهلهم، ويهدي حائرهم، ويشحذ بصائرهم، ويثقف مائدهم، ويصلح فاسدهم، ويتخولهم من مواعظه بما يبرد الغلل ويشفي العلل، وينسخ الشك باليقين، ويقبس مقابس النور المبين، فمن أصغى إلى إرشاده سعد جده، وورى زنده، وأحمد يومه وغده، ومن خالف عن أمره ضل مسعاه، وخسر آخرته ودنياه، ودعا إلى اتباع أمر الله تعالى في تقويمه وإصلاحه، والكف بإقامة الحدود عليه من جماحه.
وانتهى إلى أمير المؤمنين ما أقدم عليه الأحداث وأهل الدعارة قبلكم من احتقاب الآثام، واستدماث مراكب الحرام، واستهتار بمحظور اللذات، والإكباب على دنيء الشهوات التي تسلخ من الدين، وتخرج عن دائرة المسلمين، وتدفع عن تأدية العبادات، وإقامة الصلوات، وتنظيم في سلك البهائم المرسلة، والسوائم المهملة، وتقصير مشايخهم وعلمائهم عن كفهم، والأخذ على أكفهم، وتعريفهم وجوه مراشدهم وتقويم أودهم، فامتعض من ذلك، وأشفق من نزول القوارع والمثلات، وحلول البليات والآيات، وارتجاع ما أودعكم الله تعالى من نعمته، وانتزاع ما ألبسكم من رحمته، وبادر بكتابه موقظاً لغافلكم، ومبصراً لذاهلكم، وباعثاً لكم على مراضيه الأولى، ومعاودة الطريقة المثلى، ومبادرة آجالكم بأعمالكم، والأخذ لأخراكم من أولاكم، ولسقمكم من صحتكم، ولنومكم من يقظتكم، عالمين بأن الدنيا لعب ولهو، وأن الآخرة هي دار القرار، وأنكم فيها كسفر شافوا المنزل، فاجهدوا عباد الله واحتشدوا، وأقلعوا وارجعوا، واسمعوا وعوا، فأنكم والله قد توضحت خدعها، وتصرم متاعها، وجل متوقعها، والسعيد من وثق بما قدم لنفسه بعد نفاذ أيامه، وورود حمامه، والشقي من أفرط وفرط، وندم حيث لا مندم، وأوعز إلى والي الحرب فلان بقراءة ما نص فيه عليكم، واختبار سيركم بعد مروره على أسماعكم، فمن رغب في التقوى، وآثر الآخرة على الدنيا، عرف ذلك وتوخاه بتكريمه وتخويله، ومن أبى إلا غواية وضلالة، وبطالة ومحالاً، أقام حد الله تعالى عليه غير مراقب فيه، فرحم الله عبداً صان نفسه في هذه الدار عن العار، وحماها في الآخرة من عذاب النار، وأمير المؤمنين يرجو أن ينفعكم الله بهدايته، ويشفي صدوركم بموعظته، ويرشدكم إلى ما يفضي بكم إلى الكفاية والحماية. فليعلم فلان بن فلان ذلك من أمير المؤمنين ورسمه، وليعمل عليه بجملته، إن شاء الله تعالى.
الصنف الحادي عشر: الكتب في النهي عن التنازع في الدين:
قال في مواد البيان: من أهم ما صرف إليه السلطان تفقده، ووقف عليه تعهده أمر الرعايا في أعماله، وتنفيذ الكتب إليهم بالنهي عن التنازع في الدين، وحسم أسباب المجادلة والمراء، والتحذير من اتباع البدع والأهواء، والإخلاد إلى مضل النحل والآراء، لأنه متى فسح لهم في هذا الباب صاروا شيعاً متباينين، وفرقاً متحاربين، وانشقت عصاهم، وانقضت حليهم، وخرجوا عن أحكام أهل السلامة إلى أحكام أهل الفتنة، وعاد ضرر ذلك على الدين والسلطان. ولهذا صرف إليه الساسة الحزمة من الملوك الاهتمام، ولم يبخلوا بحسم مادته على تغاير الأيام.
ثم قال: والرسم فيها أن تصدر بحمد الله تعالى على نعمه في تأليف كلمة أهل الإسلام، وما من به عليهم من الاتفاق والالتئام، وشكره على موهبته في نزع الغل من صدورهم، والتأليف بين قلوبهم، وتصيير إخواناً متصافين، وخلاناً متوافين، وعونهم بما وفقهم له من إظهار على من شق عصاهم، وإقدارهم بما منحهم من الألفة على مراماة من رماهم، والصلاة على سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ثم يشفع هذا بأن أمير المؤمنين بما مكنه الله تعالى من مراضيه، ووفقه له من القيام بفرضه، والنهوض بحقوق طاعته، والعمل بكتابه وسنته، ورغبته في الخير العام وشمول الصلاح لكافة الأنام، لا يزال يحص رعيته على ما يقضي بسداد دنياهم، وحسن المنقلب في أخراهم، ويرى أن أنفع ذلك عائدة، وأجزله فائدة، ما رفع عنهم أسباب التنافر، ودعاهم إلى التعاضد والتظافر، وحال بينهم وبين الخوض في محدث النحل والآراء، والإصغاء إلى مضل البدع والأهواء التي تصد عن سنن الهدى، وتلقي في مهاوي الردى، وتدعو إلى شق العصا، وتقضي بانتثار النظام، واختلاف الأنام، وانفصام عرى الإسلام، وكفهم عن المماراة في الدين، والإصغاء إلى سنة المضلين، المعطلة للسنن، القادحة للفتن، الداعية إلى احتقاب الآثام، وإراقة الدماء الحرام، ونحو ذلك مما يضاهيه.
ثم يقول: وانتهى إلى أمير المؤمنين التفاتكم عن معايشكم التي جعلها الله لدنياكم قواماً، وعبادتكم التي صيرها لآخرتكم نظاماً، وإقبالكم على المماراة والمنازعة، والمناظرة والمجادلة، إلى شكوك يقيمها من يرغي في الرياسة والتقدم، ليفوز بخبيث المطعم الذي يعمي البصائر، ويفسد السرائر، ويقدح زند الضلال، ويشب نار المحال والانتحال، فامتعض أمير المؤمنين من ذلك وخاف عليكم أليم عاجله، وذميم آجلته، وبادركم بكتابه هذا منبهاً لغافلكم، ومرشداً لجاهلكم، وباعثاً لكم على التشاغل بما أطاب أخباركم، وحسن آثاركم، من تلاوة كتاب الله الذي آثركم بتلاوته، وزيارة بيوت عبادته، والتأدب بأدب نبيه وعترته، وأوعز إلى النائب في الحرب بتقويم من خرج عن أمره، وتثقيف من أصر على غيه، وأن يحسم الداء قبل استشرائه، ويستدركه دوين استفحاله، فأصغوا إلى زواجر أمير المؤمنين ومواعظه، واقتدوا بهديه ومراشده، لتفوزوا بطاعته، وتسعدوا برضاه، وتسلموا في الحاضر، من مهانة أنتم بغيرها أولى، إن سلكتم الطريقة المثلى، وفي الغابر مما أعده الله لمن أمره من العقاب في الدار الأخرى، فاعلموا هذا واعملوا به إن شاء الله تعالى.
الصنف الثاني عشر: المكاتبة بالأوامر والنواهي:
قال في مواد البيان: على هذه الكتب مدار أشغال السلطان في أعماله، لأنها النافذة في تصريف الأمور وتنفيذ المراسيم ولاية وعمالة. قال: وليس لهذه أمثلة فنوردها، لكنه ينبغي للكاتب أن يؤكد القول بها، فإن الأمر فيها والنهي- وإن اختلف نظمها- نوع واحد، لأن كل مأمور به منهي عن ضده، وكل منهي عن ضده مأمور بضده، فينبغي له أن يؤكد القول في امتثال ما أمر، والعمل عليه والانقياد له، والانتهاء عما نهى عنه، والحذر من الإمام به. ويجزم المر في العبارة عنهما جزماً تاماً لا يتمكن معه من الإخلال ببعضهما والنقص فيهما لهوى، ويأتي من المبالغة بما يضيق العذر، ومتى وقع تقصير أو تثاقل عما حدد فيهما، فإنما يمثل مثل ذلك جامعة من تفنن المعاني التي يأمر بها وينهى عنها. ثم قال: والكاتب إذا عرف الترتيب الواقع في ذهين الغرضين على طريق الإجمال، أمكنه أن يبسطه إذا احتاج إلى التفصيل والبيان بمشيئة الله تعالى.
واعلم أن كان للخلفاء والملوك وولاة الأمور في قديم الزمان عناية بالكتابة إلى الرعايا بالأوامر والنواهي المتعلقة بالدين، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما يجري مجرى ذلك، وغلى العمال بالوصية بالرعايا، والاجتهاد فيما لديهم م جباية الخراج، والاهتمام بأمر الدواوين، وما أشبه ذلك.
فأما الأوامر والنواهي المتعلقة بالدين، فقد تقدم في الكلام على مصطلح أهل الغرب في أوائل هذه المقالة من إنشاء أبي زيد الفازازي ما أغنى ذكره هناك عن إعادته هنا أو ذكر غيره.
وأما الأوامر والنواهي المتعلقة بأمور السلطنة، فمن ذلك ما كتب به أبو عبد الله بن الجنان، عن الأمير أبي عبد الله بن هود أحد ملوك الطوائف بالأندلس في الرفق بالرعية، وهو: أما بعد الحمد لله تعالى معلي منار الحق ورافعه، ومولي متوالي الإنعام ومتتابعه، والصلاة على سيدنا محمد رسوله مشفع الحشر وشافعه، المبعوث ببدائع الحكم وجوامعه، وعلى آله وصحبه المبادرين إلى مقاصده العلية ومنازعه، والذابين عن حوزة الإسلام بمواضي الاعتزام وقواطعه، والرضا عن الخليفة الإمام العباسي أمير المؤمنين ذي المجد الذي لا ينال سمو مطالعه.
فإنا كتبنا إليكم، كتب الله لكم عزة قدحها بالثبوت فائز، وسعادة قسطها للنماء حائز، من فلانة: وكلمة الحق منصورة اللواء، منشورة الأضواء، والتوكل على الله وشكره وصلتنا إلى نيل مزيد النعماء والآلاء، ومكانتكم لدينا مكانة السني المناصب، المنتمي إلى كرام المنتميات والمناسب، والمتحلي بالغناء والاكتفاء، والخلوص والصفاء، بأكرم السجيات والمناقب، المعلوم ما لديه من المناصحة السالكة بأكرم السجيات في المناجي الحسان على المهيع الأوضح والسنن الأرحب.
وقد وقفنا على كتابكم معلماً بخبر فلانة وربما رأيتموه من المصلحة في تحصينها، والاجتهاد في سبب تأمينها، ونحن نعلم أنكم تريدون الإصلاح، وتتوخون ما تتوسمون فيه النجاح، لكن أهم الأمور عندنا، وأولى ما يوافق غرضنا وقصدنا، الرفق بالرعية، وحملها على قوانين الإحسان المرعية، وعلى أثر وصول كتابكم وصلنا كتاب أهل فلانة المذكورة يشكون ضرر الخدمة المتصرفين فيهم، ويتظلمون من متحيفيهم ومتعسفيهم، وفي هذا ما لا يخفى عليكم، ولا ترضون به لو انتهى إليكم، ولا يعلم طريق الرفق الحاوية لرفق الخاصة والجمهور، أعاد التسكين تنفيراً، والتيسير تعسيراً، وتعلمون أنا لا نقدم على إيثار العدل في عباد الله المسلمين عملاً، ولا نبغي لهم باطنة بغير التخفيف عنهم والإحسان إليهم بدلاً، وأنتم أول وأولى من يعتقد فيه أنه يكمل هذا المقصد، ويتحرى في مصالح الرعايا هذا السنن الأرشد، وقد خاطبنا أهل فلانة بما يذهب وجلهم، ويبسط أملهم، وعرفناهم بأنكم لو علمتم ما هو جار عليهم من بعض الخدمة لأخذتم على يده، وجازيتموه بسوء معتمده، وأشعرناهم بأنا قد أوصيناكم بهم خيراً، ونبهناكم على ما يدفع عنهم ضيماً ويرفع ضيراً، وأنتم- إن شاء الله- تستأنفون نظراً جميلاً، وتؤخرون عنهم الخدمة الذين لا يسلكون من السياسة سبيلاً، وتقدمون عليهم من تحسن فيهم سيرته، وتكرم في تمشية الرفق علانيته وسريرته، ومثلكم لا يؤكد عليه في مذهب تحسن عواقبه، وغرض يوافقه القصد الاحتياطي ويصاحبه، إن شاء الله تعالى.
الصنف الثالث عشر: المكاتبة عند حدوث الآيات السماوية:
قال في مواد البيان: جرت العادة أن يكتب السلطان إلى الرعايا عند حدوث الآيات المهولة التي يريد الله تعالى بها إرشاد عباده: إلى الإقلاع عن معصيته، والإقبال على طاعته، كالرياح الواصف، والزلازل والصواعق، واحتباس القطر وخروجه في التسكاب عما جرت به العادة كتباً يضمنها من الوعظ الشافي الرقيق ما يأخذ بمجامع القلوب، ويشعرها التقوى والرهبة، ويبعث على المراقبة والنظر في العاقبة.
قال: وينبغي للكاتب أن يتلطف في الموعظة، ويبالغ في الذكرى التي تخطر الخواطر وتقدحا الأنفس، وتحرك العزائم نحو الإخلاص، فإنه إذا أبرز هذه المعاني في صورة تشعر الخيفة من غضب الله تعالى وعقبه، وترغب في عفوه وثوابه، نفع الله بذلك؟ من رغب عن الهوى ورغب في التقوى بكتابه.
قال: والرسم فيها أن تفتتح بحمد الله تعالى على آلائه التي يفضيها ابتلاء واختبار، وآياته التي يرسلها يخويفاص وإنذاراً، وموهبته في التوقف بسابغ نعمته على طاعته، والتحذير بدافع نقمته من معصيته، والصلاة على رسوله الذي أنقذ بشفاعته، وعصم من نزول القوارع بنبوته. ثم يقدم مقدمة تتضمن أن الله تعالى يقدم الإعذار أمام سخطه وعذابه، ويبدأ بالإنذار قبل غضبه وعقابه، فمن استيقظ من سنته، ونظر لعاقبته ونهض إلى طاعته، وأقلع عن معصيته، كشف الرين عن قلبه، وضاعف أجره، ومن أضرب من موعظته، وتعامى عن تبصيره وتذكيره، أخذه على غرته، وسلبه سربال نعمته.
ثم يأخذ في حث الأمة على الفزع إلى الصلوات، والمسارعة إلى بيوت العبادات، والإكثار من التضرع والخشوع، الاستكانة والخنوع، بإذراء سحائب الدموع، وإخلاص التوبة عن محتقب الآثام ومخترع الأوزار، والتوسل إلى الله تعالى في قبول الإنابة بقلوب نقية، وطويات على الطهارة مطوية، وسرائر صريحة، ونيات صحيحة، يصدقها الندم على الماضي، وعقد العزم على الإقلاع في الآتي، والرغبة إليه في رفع سخطه وإنزال رحمته، وما يجاري هذا. قلت: وهذا الصنف من المكاتبات قد ترك في زماننا، فلا عناية لأحد به أصلاً، وإن كان مما يجب الاهتمام به وتقديمه.
الصنف الرابع عشر: المكاتبات في التنبيه على شرف مواسم العبادة وشريف الأزمنة.
قال في مواد البيان: إن الله وقت لعباده أوقاتاً عظم شانها، ورفع مكانها، وأمرهم أن يتقربوا فيها إليه بتأدية ما فرضه عليهم لطفاً بهم ورأفة، وحناناً ورحمة. قال: ولم يزل السلطان يكتب إلى عماله بتنبيه الرعايا عليها، وتعريفهم فضل العبادة فيها، ليستقبلوا بالإخبات والخشوع، ويتلقوها بالتضرع والخضوع، ويتوسلوا في قبول التوبات، وغفران الخطيات، حفظاً للنظام الدين، وتفقداً لمصالح المسلمين.
قال: وينبغي للكاتب أن يحسن في هذا الكتب ويذكر الناسي وينبه الغافل اللاهي، والمهمل الساهي، ويحرك النفوس نحو مصالحها، ويبعثها على الأخذ بفاضل الأعمال وصالحها.
قال: والرسم فيها أن تفتتح بحمد الله تعالى على أن وهب لعباده أوقاتاً يقبل فيها قربهم وأعمالهم، ويخفف بالإنابة إليه عند حلولها أوزارهم وأثقالهم، فيغفر لمستغفرهم، ويعفو عن مسيئهم، ويقبل التوبة من تلئبهم، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله. ثم يقدم مقدمة مبنية على تعظيم هذه الأوقات، والإنابة عما قصرها على العبادات، والمسابقة إلى لخيرات، من عظيم الثواب. ويشفع ببعث الولاة على أخذ الرعايا بالمحافظة على السنن، وتعهد حق الله تعالى فيها، والتوسع في توكيد الحجة، ونفي الشبهة، وإيراد المواعظ الرادعة، والزواجر الوازعة، التي تعود بشحذ البصائر، وصفاء الضمائر، والإتيان بحقوق هذه الأوقات وواجباتها، والفوز بما يوفره من جزيل بركاتها، والتوفر على حسن مجاورتها، والتقرب إلى الله تعالى ببذل الصدقات، والإقبال على الصلوات وزيادة بيوت العبادات، ومذاكرة أهل الدين، والسعي في مصالح المسلمين، ونحو ذلك مما يناسبه.
ثم قال: فإن كان الكتاب مقصوراً على الدعاء افتتح بالحمد على أن جعل لعباده حرماً آمناً يمحص ذنوبهم بزيادته، ويمحو آثامهم بحجه ووفادته، ويلي ذلك ما يليق به من الحث على تأدية المناسك، وتكميل الفرائض والسنن، وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الحكم في سائر الأبواب الدينية.
الصنف الخامس عشر: المكاتبة بالسلامة في الركوب في المواسم والأعياد وما ينخرط في سلكها من المواكب الجامعة.
قال في مواد البيان: جرت العادة أن يكاتب السلطان عماله وولاته بسلامة المواسم الإسلامية كلها، لأنها تشاهد لجميع أصناف الرعايا وذوي الآراء المختلفة والمذاهب المتباينة، والقلوب المتعادية والمتصاحبة في أمر الدين والدنيا، وكل متربص لفتنة ينتهز فرصتها. فلا تكاد هذه المشاهد تخلو من ثورة وحدوث أحداث منكرة تقضي إلى الفتن التي لا ترفع. فإذا أنعم الله تعالى بالسلامة منها، وجب التحدث بنعمته، والشكر لمشيئته، وأن يكتب أمير المؤمنين بسلامة ما قبله إلى عماله، لتسكن الكافة إلى ذلك، ويشتركوا في حمد الله تعالى عنه.
واعلم أن المراسم التي تكاد يعتاد الخلفاء الركوب فيها والكتابة بالسلامة منها هي: عيد الفطر، وعيد النحر. وكان الخلفاء الفاطميون بالديار المصرية يعتادون مع ذلك الركوب في غوة السنة، وفي أول رمضان، وفي الجمعة الأولى، والجمعة الثانية، والجمعة الثالثة منه، على ما تقدم ذكره في الكلام على ترتيب المملكة في المقالة الثانية. وكذلك عيد الغدير: وهو عيد من أعياد الشيعة كما سيأتي ذكره. ونحن نشير إلى ذكر مواكبها موكباً موكباً، ونذكر ما جرت به العادة في الكتابة في البشارة بالسلامة في الركوب كل مركوب منها.
الأول: البشارة بالسلامة في الركوب في غرة السنة. وقد تقدم الكلام على صورة الموكب في الكلام على ترتيب المملكة في الدولة الفاطمية بالديار المصرية في المقالة الثانية.
وهذه نسخة كتاب في معنى ذلك، أورده أبو الفضل الصوري في تذكرته وهي: الحمد لله الذي لم يزل يولي إحساناً وإنعاماً، وإذا أبلى عبيده عاماً أجد لهم بفضله عاماً، فقد أمدكم معاشر الخلفاء كرماً ومناً، وآتاكم من جوده أكثر مما يتمنى ومنحكم من عطائه ما يوفي على ما أردتموه، {سخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه} وقد استقبلتم هذه السنة السعيدة، وإذا عملتم بالطاعة كنتم مستنجزين من ثواب الله الأغراض البعيدة.
وصلى الله على سيدنا محمد نبيه الذي غدت الجنة مدخرة لمن عمل بهداه لما سمعه، ومهيأة لمن آمن به واتبع النور الذي أنزل معه، وبين بإرشاده ما تجري أمور السنين عليه في العدد والحساب، ونسخ ما كانت الجاهلية تفعله فيه زيادة في الكفر وضلالاً عن الصواب، وعلى أخيه وابن عمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي كمل الله الإسلام بإمامته، وضاعف الأجر لأهل ولايته، ومنح شيعته مقبول شفاعته، وعلى الأئمة من ذريتهما خلفاء الله على خلقه، والقائمين بواجب حقه، والعاملين في سياسة الكافة بما يرضيه سبحانه، ويضمن غفرانه ورضوانه، وسلم عليهم أجمعين، سلاماً باقياً على يوم الدين.
وإن الحق بنشر الذكر وأوجبها للوصف وإعمال الفكر، نعمة رفعت الشك وأزالت اللبس، ووضح ضياؤها لأولي الألباب وضوح الشمس، واشترك الناس فتضاعفت الفائدة لديهم، وانتفعوا بذلك في تواريخهم ومعاملاتهم وما لهم وعليهم، وتلك هي المعرفة باليوم الذي هو مطلع السنة وأولها، ومبدؤها ومستقبلها، وحقيقة ذلك ظهور إمام كل زمان. وكان ظهور إمام زماننا مولانا وسيدنا الإمام فلان ليتساوى في الشرف برؤيته العامة والخاصة، فيكون استقلال ركابه إشعاراً بأن اليوم الذي تجلى فيه لأوليائه، ولرعاياه المتفيئين ظل لوائه، هو افتتاح السنة وأول محرمها، وعليه المعتمد في عدد تام الشهور وناقصها من مفتتحها إلى مختتمها، يوم كذا غرة المحرم في سنة كذا، في عساكر لا يحصر عددها، وقبائل لا ينقطع مددها، وإذا اضطرمت نار الكفر والتهبت، طفئت بأنوارهم وخبت، وقد تقلدت هندية تروع إذا أشرقت وسكنت، فما أظن إذا اصطحبت، والأرض بمرورها عليها مبهجة مونقة، وملائكة الله عز وجل حافة به محدقة، فآذن بأن اليوم المذكور هو غرة السنة المعينة، وأن اليوم الفلاني أمسه انسلاخ كذا سنة كذا المتقدمة، لتسقيهم أمورهم على أعدل نهوجهم، وليحفظ نظام دينهم في صومهم وفطرهم وحجهم، وكذلك أصدر هذا الكتاب ليتلوه الأمير على من يسكن عمله، وجميع من قبله، ويتماثلوا في معرفته، ويحمل كل منهم الأمر عليه في معتقده وأسباب معاملاته، ويشكروا الله على النعمة عليهم بهدايته.
الثاني: البشارة بالسلامة في الركوب في أول شهر رمضان، وهو أعلى نحو تقدم في الركوب في غرة السنة.
وهذه نسخة كتاب في معنى ذلك، من إنشاء ابن الصيرفي، وهو: الحمد لله كالئ خلقه في اليقظة والمنام، والكفل لهم بمضاعفة الأجر في شهر الصيام، وصلى الله على سيدنا محمد الذي بعثه رحمة الأنام، وعلى أخيه وابن عمه أمير المؤمنين على بن أبي طالب أخلص ولي، وأشرف وصي، وأفضل إمام، وعلى الأئمة من ذريتهما الداعين إلى دار السلام، صلاة دائمة الاتصال، مستمرة في الغدو والآصال.
وإن من المسرة التي تتهادى، والنعمة الشاملة للخلق جميعاً وفرادى، ما من الله به ظهور مولانا وسيدنا الإمام فلان، صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين، وأبنائه الأكرمين، يوم كذا غرة شهر رمضان من سنة كذا، إعلاماً بأول الشهر وافتتاحه، وأن الصيام المعزية القاهرة المحروسة في عساكره المظفرة وجنوده، وأوليائه وأنصاره وعبيده، والمنة برؤيته قد تساوى فيها الكافة، وملائكة الله مطيفة حافة، وعوده إلى قصوره الزاهرة، وقد شمل المستظلين بأفيائه بسعادتي الدنيا والآخرة. أصدر إليك هذا المر على الجملة، وتشكر النعمة السابغة على أهل الملة، وتتلوها على أهل عملك، وتطالع بكائنك في ذلك، فاعلم هذا واعمل له، إن شاء الله تعالى.
الثالث: الكتابة بالبشارة بالسلامة في ركوب الجمعة الأولى من شهر رمضان.
وهذه نسخة كتاب من ذلك، من إنشاء ابن الصيرفي أيضاً، وهي: أفضل ما سير ذكره، ووجب حمد الله تعالى عليه وشكره، ما عاد على الشريعة بالجمال والبهجة، وأضحى واصفه صحيح المقال صادق اللهجة، فضاعف حسنه ومحص سيئه، وجعل أسباب السعادة متسهلة متهيئة، وذلك ما يسره الله تعالى من استقلال ركاب سيدنا ومولانا صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين، وأبنائه الأكرمين، يوم الجمعة من شهر رمضان من سنة كذا، مؤدياً خطبتها وصلاتها، وضامناً لأمة ائتمت به خلاصها يوم الفزع الأكبر ونجاتها، في وقار النبوة وسكينة الرسالة، والهيبة المستولية على العظمة والجلالة، والعساكر الجمة التي تقلق بمهابتها وتزعج، وتظن لكثرتها واقفة والركاب يهملج، ولما انتهى إليه، خطب ووعظ ففتح أبواب التوبة، وآب إلى الطاعات من لم يطمع منه بالأوبة، وصلى صلاة تقبلها جل معز بقبول حسن، وقصر في وصفها ذوو الفصاحة واللسن، وعاد إلى مستقر الخلافة، ومثوى الرحمة والرأفة، وعين الله له ملاحظة، وملائكته له حافظة. أعلمت ذلك لتذيعه في أهل عملك، وتطالع بكائنك.
الرابع: المكاتبة بالبشارة بالسلامة في ركوب الجمعة الثانية من شهر رمضان.
قد تقدم في الكلام على ترتيب المملكة بالديار المصرية في الدولة الفاطمية في المقالة الثانية، أن الخليفة كان يركب في الجمعة الثانية من شهر رمضان على الجامع الأنوار، وهو جامع باب البحر، الذي عمره الحاكم بأمر الله، وجدده الصاحب شمس الدين المقسي.
وهذه نسخة كتاب في المعنى، من إنشاء ابن الصيرفي أيضاً، وهي: لم يزل غامر كرم فضل وفضله، يفوق حاضره ما كان من قبله، فنعمة الله تعالى سابغة ومننه متتابعة، وملابسها ضافية، ومغاربها نأمية، وسحائبها هأمية، وهو جل وعز يضاعفها على من صلى وصام، ويواليها عند تمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصال لها ولا انفصام، وتجدد من ذلك ما كان من بروز مولانا وسيدنا الإمام فلان، صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين، وأبنائه الأكرمين، يوم الجمعة من شهر رمضان من سنة كذا، في مشايخ عزه، وباذخ مجده، وتوجهه إلى الجامع الأنوار المنسوب إلى مولانا الإمام الحاكم بأمر الله جده، سلام الله عليه وصلواته، وبركاته وتحياته، وعساكره قد تجاوزت الحد، وكثرت عن الإحصاء والعد، فإذا تأملها الطرف انقلب عنها خاسئاً وارتد.
ولما وصل إلى الجامع المذكور خطب فأورد من القول أحسنه، ووعظ فأسمع من الوعظ أوضحه وأبينه، وصلى صلاة جهر بالقراءة فيها ورتلها، وعاد إلى قصوره الشريفة وقد شملت البركات برؤيته، ووفق من عمل بموعظته، ونجا من اقتدى به في صلاته، واستولى على السعد من جميع أرجائه وجهاته. أعلمناك ذلك لتعرف قدر النعمة به، فاشكر الله سبحانه بمقتضاه، واعتمد تلاوة هذا الأمر على رؤوس الأشهاد، فاعلم ذلك.
الخامس: المكاتبة السلامة في الركوب في الجمعة الثالثة من شهر رمضان.
قد تقدم في الكلام على ترتيب المملكة في المقالة الثانية أن الخليفة كان يركب في الجمعة الثالثة منه إلى الجامع العتيق بمصر، فيخطب فيه ويعود إلى قصره.
وهذه نسخة كتاب في معنى ذلك، من إنشاء ابن الصيرفي، وهي: من عوائد الله- سبحانه- الإحسان إلى عبيده، وتعويضهم للشكر عليه بنموه ومزيده، والامتنان بتيسير عصيه، وتعجيل بعيده، فهو لا يخلبهم من نواجمه، ولا يعفيهم من هواجمه.
ولما أقبل هذا الشهر الشريف كان من عموم بركاته، وشمول خيراته، أن مولانا الإمام الفلاني صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين، وأبنائه الأكرمين، والى فيه بركته، وزكى أعمال المؤمنين في استماع اختطابه والائتمام بصلاته، وفي هذا اليوم وهو يوم الجمعة من شهر رمضان، اعمل ركابه إلى الجامع العتيق بمصر ليسهم لهذه المدينة من حظي والدنيا والآخرة، مثل ما أسهمه وعجله لأهل المعزية القاهرة. فكانت هيبته يعجز وصفها كل لسان، وظهر- عليه السلام- في الردائين: السيف والطيلسان، والجيوش قد انبسطت وانتشرت، والنفوس قد ابتهجت واستبشرت، والألسنة قد عكفت على الدعاء بتخليد ملكه وتوفرت. وعند وصوله خطب فأحسن في الألفاظ والمعاني، وحذر من تأخير التوبة والتضجيع فيها والتواني، وصلى صلاة شرفها الله وفضلها، ورضيها تبارك وتعالى وتقبلها، وانكفأ عائداً إلى قصوره ومنازله المعظمة، ضاعف الله له ثوابه وأجره، وأوجب شكره ورفع ذكره، ويجب أن تعتمد إذاعة ذلك ليبالغ الكافة في الاعتراف بالنعمة فيه، ويواصلوا شكر الله تعالى عليه، والمطالعة بما اعتمد فيه.
السادس: ما يكتب بالبشارة بالسلامة في ركوب عيد الفطر.
وقد تقدم الكلام على ترتيب الدولة الفاطمية في المقالة الثانية، أن الخليفة كان يركب لصلاة عيد الفطر صبيحة العيد، ويخرج من باب العيد من أبواب القصر، ويتوجه إلى المصلى فيصلي ويخطب، ثم يعود إلى قصوره، ويكتب بذلك إلى أعمال المملكة، تارة مع خلو الدولة عن وزير، وتارة مع اشتمالها على وزير.
وهذه نسخة كتاب في معنى ذلك، مع خلو الدولة عن وزير، من إنشاء ابن الصيرفي، وهو:
الحمد لله ناشر لوائه في الأقطار، ومعوض المطيعين من جزائه ببلوغ الأوطار، الذي نسخ الإفطار بالصيام ونسخ الصيام بالإفطار، وكلف عباده ما يطيقونه ووعد عليه جزيل أجره، وأسبغ من نعمته ما لا يطمع في القيام بواجب حمده عليه وشكره، وصلى الله على سيدنا محمد نبيه الذي أعلن بالإيمان وباح، وبين المحظور في الشريعة والمباح، وأرشد إلى ما حرمه الإسلام وحلله، ومهد سبل الهدى لمن استغواه الشيطان وضلله، وأوضح مراتب الأوقات ومنازلها، وعرف تفاوت الأيام وتفاضلها، وعلى أخيه وابن عمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي مضت في الله عزماته، وبيضت وجه الدين الحنيف مواقفه ومقاماته، وعلى الأئمة من ذريتهما الذين تكفلوا أمر الأمة نصاً، وامتطوا على منارها فلم يألوا جهداً ولم يتركوا حرصاً، فالحاضر منهم يوفي على من كان من قبله، وأحزاب الحق فرحون بما آتاهم الله من فضله، وسلم عليهم أجمعين سلاماً لا انقطاع لدوامه، وشرفهم تشريفاً لا انفصال لإبرامه، وأسنى ومجد، وتابع وجدد.
وكتاب أمير المؤمنين هذا إليك يوم كذا عيد الفطر من سنة كذا: بعد أن وفى الصيام حقه، وحاز أجر من جعل الله على خزائنه رزقه، وبعد أن أفطر بحضرته الأولياء من آله وأسرته، والمقدمون من رؤساء دولته، والمتميزون من أوليائه وشيعته. وكان من نبأ هذا اليوم أن أمير المؤمنين لما ارتقب بروزه من قصوره، وتجلى فأشرقت الأرض بنوره، توجه إلى المصلى قاضياً لسنة العيد، فكانت نعمة ظهوره بالنظر للحاضر وبالخبر للبعيد، واستقل ركابه بالعساكر المنصورة التي أبدت منظراً مفتناً معجباً، وجعلت أديم الأرض بالخيل والرجال محتجباً، وذخرت الانتقام ممن شق العصا وتجاوزت في الكثرة عدد الرمل والحصا، وزينت الفضاء بهيئتها وروعت الأعداء بهيبتها، وجمعت بين الطاعة وشدة الباس وادرعت من التقوى أمنع جنة وأحصن لباس ولم يزل سائراً في السكينة والوقار، ناظراً للدنيا بعين الاحتقار، والثرى بالجباه والشفاه مصافح ملثوم فهما موسومتان به وهو بهما موسوم إلى أن وصل إلى مقر الصلاة، ومحل المناجاة فصلى أتم صلاة وأكملها وأدها أحس تأدية وأفضلها وأخلص في التكبير والتهليل إخلاص من لم يفت أمراً ويخشى الله ويتقيه ونصح في إرشاده ووعظه، وأعرب ببديع معناه وفصيح لفظه، وعاد إلى مثوى كرامته، وفلك إمامته، محمود المقام، مشمولاً بالتوفيق في النقض والإبرام. أعلمك أمير المؤمنين ذلك لتذيعه فيمن قبلك، وتشكروا الله على النعمة الشاملة لهم ولك، فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله تعالى. وكتب في اليوم المذكور.
وهذه نسخة كتاب في معنى ذلك، والدولة مشتملة على وزير، عن الحافظ لدين الله الذي العلوي خليفة الديار المصرية، في سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، وهي: الحمد الله الذي أعز الإسلام وشيد مناره، وأيد أولياءه ونصر أنصاره، وأظهر في مواسمه قوته واستظهاره، وختم الشرائع بشرف أبدي فكان حظها منه إيثاره، وخط الإسلام استبداده به واستئثاره، وصلى الله على جدنا محمد الذي كرمه باصطفائه، وأسعد من حافظ على اتباع نهجه واقتفائه، وبين بشرعه ما حلله وحرمه، ودعا الأمة بإرساله إلى دين قيم أعلى بناءه وأحكمه، ووعدهم على مفروضة ومسنونه جزيل الأجر، وأمر في اعتقاد خلافه بالدفع والمنع والزجر، وعلى أخيه وابن عمه أبينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أول الأئمة الخلفاء، والمشتهرة فضاءله اشتهاراً ليس به من خفاء، ومن حباه الله المحل الرفيع والمن الجزيل، وخصه من الشرف بما جاء فيه من محكم التنزيل، وعلى الأئمة من ذريتهما القائمين بفرض الله والمؤدين لحقوقه، والذين كفلت أمانتهم بانبساط نور الحق وانتشار لوائه وخفوقه، وسلم وكرم، ومجد وعظم.
وكتاب أمير المؤمنين إليك يوم كذا عيد الفطر من سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، الذي أمر الله فيه بما نهى عنه من قبله، وضاعف الأجر بكرمه وفضله، فرفع تكاليف الصوم، وأوجب الإفطار في هذا اليوم وساوى في ذلك بين كل متهم ومنجد وأمر بني آدم فيه بأخذ الزينة عند كل مسجد، وكان من خبره أن الفجر لما طلع مبشراً بالشمس، ومؤذناً ببعثها من الرمس، تتابعت الجيوش الموفورة، والعساكر المنصورة إلى أبواب القصور الزاهرة توكفاً لأنوار أمير المؤمنين، وترقباً لظهوره قاضياً حق الدين، فلما أسفر الصبح وأضاء، وملأت الخلائق الفضاء تجلى من أفلاك إمامته، وبرز فأغبط كل مؤمن بثباته على المشايعة وإقامته وكان ظاهراً وهو محتجب بالأنوار، وممتنعاً وهو منتهب بالأبصار، والكافة يصافحون الأرض ويجتهدون في الدعاء بإخلاص نياتهم، والعساكر المؤيدة لو أنها عمت الأرض بتطبيقها، وساوت بين قربيها وسحيقها، وصارت كالجبال الرواسي فيها، لكانت قد تزلزلت ومادت بأهليها، وهي مع تباين أجناسها وطوائفها متظافرة على معاندي الدولة ومخالفيها، متلائمة على الولاء، متمالئة على الأعداء، تتلفت إلى المجاهدة كأنها الأسود إقداماً وباساً، وكأنها فصلت جوامد الغدران سلاحاً لها ولباساً، والسيد الأجل الأفضل التي عظمت به المواهب وجلت، وذهبت بوزارته الغياهب وتجلت، وتهلل بنظره وجه الملة وكان عابساً، وأعاد الدولة معصراً وقد كانت قبله عانساً، وحسنت الدنيا بأيامه إذ ليس فيها من يضارهيه، وانتظمت أمورها على الإرادة بصدورها عن أوامره ونواهيه، ترتب المواكب بمهابته، ويستغنى بتوغلها في القلوب عن إيمائه وإشارته، وكل طائفة مقبلة على شانها، لازمة لمكانها، متصرفة على تهذيبه وتقريره، عاملة بآدابه، فوقوفها بوقوفه ومسيرها بمسيره.
وتوجه أمير المؤمنين إلى المصلى محفوفاً بأنوار تجلى ما أنشأته سنابك الخيل، وتمحو آية نقع قام مثارها مقام ظلال الليل، وعليه من وقار الإمامة، وسكينة الخلافة، ما خصه الله تعالى دون البرية وحده، لأنه مما ورث أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وجده، ولما انتهى إليه قصد المحراب وأمه، وأدى الصلاة أكمل أداء وأتمه، ثم انتهى إلى المنبر فعلاه، ومجد الله تعالى وحمده على ما أولاه، ووعظ وعظاً خوف عاقبة المعاصي والذنوب وحل وكاء العيون وداوى مرض القلوب، وأمر بسلوك سبيل الطاعات وأفعال البر، وحث على التوفر عليها في الجهر والسر، وعاد إلى قصوره المكرمة، ومواطنه المقدسة، وقد بذل في نصحه لله وللمؤمنين جهده، وفعل في الإرشاد والهداية ما لا غاية بعده. أنابك أمير المؤمنين خبر هذا اليوم لتشكر الله على النعمة فيه، وتذيعه قبلك على الرسم فيما يجاريه، فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى.
السابع: ما يكتب بالبشارة بالسلامة في ركوب عيد النحر.
قد تقدم في الكلام على ترتيب دولة الفاطميين في المقالة الثانية أن الخليفة كان يركب لصلاة عيد النحر كما يركب لصلاة عيد الفطر، تارة مع اشتمال الدولة على وزير، وتارة مع عدم اشتمالها على وزير.
وهذه نسخة كتاب في معنى ذلك، من إنشاء ابن الصيرفي، وهي: أما بعد، فالحمد لله الذي أعلى منار الملة، وشرف مواسم أهل القبلة، وكفل أمير المؤمنين أمر الأيام، كما كلفه أمر الأنام، فرأى الناس من حسن سيرته أيقاظاً ما لا يرونه مجازاً في المنام، وصلى الله على جدنا محمد ونيه الذي أرسله إلى الناس كافة، وجعل العصمة محيطة به حافة، فأطلع في ظلام الشرك شمس التوحيد ببدره، وآمن به من شرح الله للإسلام صدره، وعصاه من تمرد فأثقل الوزر ظهره، وبين عبادات كرم أجرها وعظم ثوابها، وألزم طاعات جعل الجنة للعاملين بها مفتحة أبوابها، وعلى أخيه وابن عمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مظافره ومظاهره، والمساوي في حكمه بين باطنه وظاهره، ولم يزل حاملاً على المحجة البيضاء جاعلاً ذلك من قربه وذخائره، قائماً بحقوق الله جاهداً في تعظيم حرماته وشعائره، وعلى الأئمة من ذريتهما نجوم الأرض وهداة أهلها، والواجبة طاعتهم على م في وعرها وسهلها، والذابين بالمشرفية عن حمى الشريعة، والذين متابعتهم من أوجه ذريعة.
وكتاب أمير المؤمنين هذا إليك يوم كذا عيد النحر سنة كذا وكذا، وهو يوم أظهر الله قوة الدولة واقتدارها، وأوجب فيه- رغبة ورهبة- مسارعة النفوس المخالفة إلى الطاعة وابتدارها، وذلك أن عساكر أمير المؤمنين توجهت إلى قصوره الزاهرة عند انفجار الفجر، وحافظت على ما تحرزه من كريم الثواب وجزيل الأجر، واستنزلت الرحمة برؤية إمام الأمة، وأعدت الإخلاص في خدمته من أوفى الحرمات وأقوى الأذمة، وأقامت إلى أن برز أمير المؤمنين والأنوار الساطعة طوالعه، ومهابته تمنع كل طرف من استقصاء تأمله وتدافعه، وقصد المصلى في كتائب لجبة، ومواكب للتعظيم مستوجبة، وعزة تتبين في الشمائل والصفحات، وقوة يشهد بطيب وصفها أرج النفحات، قد غدت عددها محكمة، وخيولها مطهمة، وذوابها إذا ظمئت كانت مقومة، وإذا رويت عادت محطمة، تتقلد صفائح متى انتضيت أنصفت من الجائر الحائف، ومتى اقتضبت عملاً كان اقتضابها مبيضاً للصحائف، وفي ظلها معاقل للائذين، وبحدها مصارع للمنابذين، وهي للدماء هوارق، وللهامات فوالق، ولمستغلق البلاد مفاتيح ولمستفتحها مغالق.
ولما انتهى إلى المصلى قضى الصلاة أحسن قضاءه وأداها أفضل تأدية، واستنزل رحمة لم تزل بصلاته متمادية، وانتهى إلى المنبر فرقبه، وخطب خطبة من استخلفه الله فكان مراقبه ومتقيه، ووعظ أبلغ وعظ، وأبان عما للعامل بنصحه في الدنيا والآخرة من فائدة وحظ، وعطف على الأضاحي المعدة له فنحرها جرياً في الطاعات على فعلها المتهادي، وأضحت تتوقع التكميل بإنجازه وعيده في الأعادي، فالله يقضي بتصديقه، ويمن بتخيله وتحقيقه، وعاد إلى قصوره المكرمة مشكوراً سعيه، مضموناً نفعه، مرضياً فعله، مشمولاً عبيده منه هو وأهله، وأعلمك أمير المؤمنين ذلك فاعلم هذا واعمل به. وكتب في اليوم المذكور.
وهذه نسخة كتاب في هذا المعنى، والدولة مشتملة على وزير، من إنشاء ابن قادوس، وهي: أما بعد فالحمد لله ماحي دنس الآثام بالحج إلى بيته الحرام، وموجب الفوز في المعاد لمن عمل بمراشده أئمة الهدى الكرام، ومضاعف الثواب لمن اجتهد فيما أمر الله به من التلبية والإحرام، ومخول الغفران لمن كان بفرائض الحج ونوافله شديد الولوع والغرام، وصلى الله على جدنا محمد الذي لبى وأحرم، وبين ما أحل الله وحرم، وعلى أخيه أبينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي ضرب وكبر، وحقر من طغى وتجبر، وعلى الأئمة من ذريتهما أعلام الدين، وحتوف المعتدين، وسلم وكرم، وشرف وعظم.
وإن من الأيام كملت محاسنها وتمت، وكثرت فضائلها وجمت، ووجب تخليد عز صفاتها، وتعيين تسطير تأثيراتها، يوم عيد النحر من سنة كذا، وكان من قصصه أن الفجر لما سل حسامه، وأبدى الصباح ابتسامه، ونهض عبيد الدولة في جموع الأولياء والأنصار، وأولي العزيمة والاستبصار، ميممين القصور الزاهرة متبركين بأفنيتها، ومستلمين بسعادتها، وتألفوا صفوفاً نبهر النواظر، ويخجل تأليفها تألف زهر الروض الناضر، مستصحين فنوناً من الأزياء تروق، ومستتبعين أصنافاً من الأسلحة يغض لمعها من لمع اللهب والبروق، والعلام خافقة، والرايات بألسنة النصر، على الإخلاص لإمام العصر، متوافقة، فأقاموا على التشوف لظهوره، وتطلع للتبرك بلامع نوره.
ولما بزغت شمس سعادته، وجرت الأمور على إيثاره وإرادته، وبدت أنوار الإمامة الجلية، وظهرت طلعتها المعظمة البهية، خر الأنام سجوداً بالدعاء والتمجيد، والاعتراف بأنهم العبيد بنو العبيد، واستقل ركاب أمير المؤمنين ووزيره السيد الأجل الذي قام بنصر الله في إنجاد أوليائه، وتكفل للإسلام برفع مناره ونشر لوائه، وناضل عن حوزة الدين وجاهد، وناضل أحزاب الكفار وناهد، يقوم بأحكام الوزارة، وتدبير الدولة أولي الإخلاص والطهارة، ويتبع آراء أمير المؤمنين فيما تنفذ من أوامره، ويعمل بأحكام الصواب فيما تقتضيه موارده ومصادره، ويحسن السياسة والتدبير، ويتوخى الإصابة في كل صغير من أمور الدولة العلوية وكبير، ويخلص لله جل وعز ولإمامه، ويكفكف من الأعداء ببذل الجهد في إعمال لهذمه وحسامه، وسار أمير المؤمنين والعساكر متتابعة في أثره، متوافقة على امتثال أمره، قد رفعت السنابك من العجاج سحاباً، وخيلت جنن الجند للناظرين في البر عباباً. والجياد المسومة تموج في أعنتها، وتختال في مراكبها وأجلتها، وتسرع فتكسب الرياح نشاطاً، وتفيد المعترض لوصفها إفراطاً، وتهدي لمن يحأول مماثلتها غلواً واشتطاطاً، وأصوات مرتفعة بالتهليل، وأصوات الحديد تسمع بشائر النصر بترجمة الصليل، ويكاد يرعب الأرض تزلزل الصهيل، وترض سنابكها الهضاب وتغدو صلابها كالكثيب المهيل.
أعلمك أمير المؤمنين نبأ هذا اليوم الذي تشتمل المسار على جميعه أولاً وآخراً، وباطناً وظاهراً، لتذيع نبأه في عمل ولايتك، وتشيع خبره في الرعايا على جاري عادتك، فاعلم هذا واعمل به، وطالع مجلس النظر السيدي الأجلي بما اعتمدته في ذلك، إن شاء الله تعالى. وكتب في اليوم المذكور.
قلت: وهذا الصنف من المكاتبات قد فرض وترك استعماله بديوان الإنشاء في زماننا.
الصنف السادس عشر: المكاتبة بالبشارة بوفاء النيل والبشارة في الركوب لفتح الخليج:
وهذه لمكاتبة من خصائص الديار المصرية، لا يشاركها فيها غيرها من الممالك. ولم يزل القائمون بالأمر بالديار المصرية من قديم الزمان وهلم جراً يكتبون بالبشارة بذلك إلى ولاة الأعمال اهتماماً بشأن النيل، وإظهاراً للسرور بوفائه، الذي يترتب عليه الخصب المؤدي إلى العمارة وقوام المملكة، وانتظام أمر الرعية. وقد كان الخلفاء الفاطميين القائمين بأمر الديار المصرية بذلك كبير العناية ووافر الاهتمام، وكانت عادتهم في ذلك أنهم يكتبون بالبشارة بوفاء النيل كتباً مفردة، وبفتح الخليج وهو المعبر عنه في زماننا بالكسر كتباً مفردة، ولعل فتح الخليج كان يتراخى في زمنهم عن يوم الوفاء، فيفردون كل واحد منهما بكتب.
فأما وفاء النيل المبارك فهذه نسخة كتاب بالبشارة به في الأيام الفاطمية، من إنشاء ابن قادوس، وهي: النعم إن كانت شاملة للأمم، فإنها متفاضلة الأقدار والقيم، فأولاها بشكر تنشر في الآفاق أعلامه، واعتداد تحكم بإدراك الغايات أحكامه، نعمة يشترك في النفع بها العباد، وتبدو بركتها على الناطق والصامت الجماد، وتلك النعمة النيل المصري الذي تبرز به الأرض الجرز في أحسن الملابس، وتظهر حلل الرياض على القيعان والبسابس، وترى الكنوز ظاهرة للعيان، متبرجة بالجواهر واللجين والعقيان، فسبحان من جعله سبباً لإنشار الموات، وتعالى من ضاعف به ضروب البركات، ووفر به مواد الأرزاق والأقوات، وهذا الأمر صادر على الأمير، وقد من الله جل وعلا بوفاء النيل المبارك، وخلع على القاضي فلان بن أبي الرداد في يوم كذا وكذا، وطاف بالخلع والتشريفات، والمواهب المضاعفات، بالقاهرة المحروسة ومصر على جاري عادته، وقدم سيرته، ونودي على الماء بوفائه ستة عشر ذراعاً وإصبعاً من سبعة عشر ذراعاً، واستبشر بالنعمة بذلك الخلائق، وواصلوا بالشكر مواصلة لا تستوقفهم عنها العوائق، وبدا من مسرات الأمم وابتهاجهم ما يضمن لهم من الله المزيد، وينيلهم المنال السعيد، ويقضي لهم بالمآل الحميد. وموصل هذا الأمر إليك فلان، فاعتمد عند وصوله إليك إكرامه وإعزازه، وإجمال تلقيه وإفضاله، إلى ما جرت به عادة مثله من رجاء، وتنويه واحتفاء، وإكرام واعتناء، ليعود شاكراً. فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة أخرى من ذلك، من إنشاء ابن الصيرفي، وهي:
أولى ما تحدث به ناقله وراويه، وتعجل المسرة حاضره ورائيه، ما كانت الفائدة به شائعة لا تتحيز، والنعمة به ذائعة لا يتخصص أحد بشمولها ولا يتميز، إذ كان علة لتكاثر الأقوات وبها يكون التماثل في الباء والتساوي في الحيات، وذلك ما من الله تعالى به بعد وفاء النيل المبارك، فإنه انتهى في يوم كذا من سنة كذا، إلى ستة عشر ذراعاً وزاد إصبعاً من سبعة عشر ذراعاً، وقد سيرنا، أيها الأمير، فلاناً بهذه البشرى إليك، وخصصناه بالورود بها عليك، فتلقها من الشكر بمستوجبها، واستقبلها من الابتهاج والاغتباط بما يليق بها، واجعل الرسوم التي جرت العادة بتوظيفها لفلان بن أبي الرداد محمولة من جهتك إلى حضرتنا، لتولى إليه من جهتنا، فاعلم به إن شاء الله تعالى، وكتب في اليوم المذكور.
وهذا الصنف من المكاتبات متداول بالديار المصرية إلى آخر وقت، يكتب به في كل سنة عن الأبواب السلطانية إلى نواب السلطنة بالممالك الشامية عند وفاء النيل، وتسير به البريدية، وربما جبي للبريدي من الممالك شيء بسبب ذلك. وإذا كانت الدولة عادلة ضمن الكتاب أنه لا يجبى للبريدي شيء بسبب ذلك.
وهذه نسخة مثال شريف في معنى ذلك: ولا زال عنه وإليه حديث الوفاء والندا، ويورد على سمعه الكريم نبأ الخصب الذي صفا موارده، ويهنئ بكل نعمة تكلفت للرعايا بمضاعفة الجود ومرادفة الجدا، ويخص بكل منة عمت مواهبها الأنام فلن تنسى أحداً.
صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي، وبحر كرمها لا ينتهي إلى مدى، وبشر بشراها دائم أبداً، تهدي إليه سلاماً مؤكداً، وثناء أضحى به الشكر مردداً، وتوضح لعلمه الكريم أن الله تعالى قد جرى على جميل عادته، وأراد بالأمة من الخير ما هو مألوف من إرادته، ومنح مزيد النعم التي لم تزل تعهد من زياداته، فأسدى معروفه المعروف إلى خلقه، وأيدهم بما يكون سبباً لمادة عطائه ورزقه، فبلغهم تأملهم، وأجرى نيلهم، وزادهم بسطة في الأرض، وملأ به الملا وكبق به البلاد طولها والعرض، ونشر من الخافقين لواء خصبه، وأتى بعسكر ريه لقتل المحل وجديه، وبينما هو في القاع إذ بلغ بإذن ربه، فجعل من الذهب لباسه، وعطر بالشذا أنفاسه، ولم يترك خلال قطر إلا جاءه فجاسه، ونص السير فسير نص مجيئه في الأرض لما صحح بالوفاء قياسه، وغازلته الشمس فكسته حمره أصيلها لما غدت له بمشاهدة ماسه، ولم يكن في هذا العم إلا بمقدار ما قيل: أقبل إذ قيل: وفى، ومد في الزيادة باعاً وبسط ذراعاً، وأطلق بمواهب أصابعه كفاً، وعاجل إدراك الهرم في ابتداء أمره مطال شبابه، ومر على الأرض فحلا في الأفواه لما ساغ شكر سائغ شرابه، واعتمد على نص الكتاب العزيز فكاد أن يدخل كل بيت من بابه.
ولما كان يوم كذا من شهر كذا الموافق لكذا من شهور القبط بادرت إلى الوفاء شيمه، وأغنت أمواجه عن منة السحب فذمت عندها ديمه، وزار البلاد منه أجل ضيف فرشت له صفحة خدها للقرى فعمها كرمه، وبلغ من الأذرع ستة عشر ذراعاً ورفع لواءه بالمزيد ونشر، وجاء للبشر بأنواع البشر، فرسمنا بتعليق ستر مقاسه، وتخليقه وتضويع أنفاسه، وفي صبيحة اليوم المذكور كسر سد خليجه على العادة، وبلغ الأنام أقصى الإرادة، وتباشر بذلك العام والخاص، وأعلنت الألسنة بحمد ربها بالإخلاص، وسطرها وهو بفضل الله ورحمته متتابع المزيد، بسيط بحره المديد، متجدد النمو في كل يوم من أيام الزيادة جديد. فالجناب العالي يأخذ م هذه البشرى بأوفر نصيب، ويشكر الله على ما منح- إن شاء الله- هذا العام الخصيب، ويذيع لها خبراً وذكراً، ويضوع بطي هنائها نشراً، ويتقدم بأن لا يجبى عن ذلك بشارة بالجملة الكافية، لتغدو المنة تامة والمسرة وافية، وقد جهزنا بهذه المكاتبة فلاناً، وكتبنا على يده أمثلة شريفة إلى نواب القلاع الفلانية جرياً على العادة، فيتقدم بتجهيزه بذلك على عادة همته، فيحيط علمه بذلك.
وهذه نسخة أخرى في معنى ذلك، كتب بها في سابع عشر ذي القعدة سنة ست وستين وسبعمائة، وصورتها بعد الصدر: وبشره بأخصب عام، أخص مسرة هناؤها للوجود عام، وأكمل نعمة تقابل العام من عيون الأرض بمزيد الإنعام.
صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تهدي إليه أتم سلام، وأعم ثناء تام، وتوضح لعلمه الكريم، أن الله تعالى- وله الحمد- قد جرى في أمر النيل المبارك على عوائد ألطافه، ومنح عباده وبلاده من مديد نعمه مزيد إسعافه، وأورد الآمال من جنوده منهلاً عذباً، وملأها به إقبالاً وخصباً، وأحيا به من موات الأرض فاهتزت وربت، وأنبتت كل بهيج وأنجبت، وأينعت الرياض فجرت فيها الروح ودبت، وامتلأت الحياض ففاضت بالمياه وانصبت، وطله كالبدر في ازدياده، وتوالى على مديد الأرض بامتداده، إلى أن بلغ حده ووصل الفرج ومنع الشدة وفي يوم كذا من شهر كذا الموافق لكذا وكذا من شهور القبط، وفاه الله ستة عشر ذراعاً فاه فيها بالنجح، وعم ثراه الأرض فأشرق بعد ليل الجدب بالرخاء أضوأ صبح، وفي ذلك اليوم علق ستره، وخلق مقياسه فاشتهر ذكره، وكسر سده، وتوالى مده، ونجز من الخصب وعده، وعلا الترع والجروف، وقطع الطريق فأمن م الجدب المخوف، وأقبل بوجهه على الأرض لباس النفع فبدلها بعد الظمأ رياً، فحمدنا الله تعالى على هذه النعم، ورأينا أن يكون للجناب العالي أوفر نصيب من هذا الهناء الأعم، وآثرنا إعلامه بذلك، ليكون في شكره هذه النعمة أكبر مشارك، فالجناب العالي يأخذ حظه من هذه البشرى، ويتحقق ما له عندنا من المكانة التي خصته في كل مبهجة بالذكرى، ويتقدم أمره الكريم بأن لا يجبى عن ذلك حق البشارة، ولا يتعرض إلى أحد بخسارة، وقد جهزنا بذلك فلاناً.
الصنف السابع عشر فيما يكتب في البشارة بركوب الميدان الكبير بخط اللوق عند وفاء النيل في كل سنة:
وهو مما يتكرر في كل سنة عند ركوب الميدان، ويكتب به إلى جميع النواب الأكابر والأصاغر، وتجهز إلى أكابر النواب خيول صحبة المثال الشريف، ويرسم لهم بالركوب في ميادين الممالك للعب الكرة، وتأسياً بالسلطان، فيركبون ويلعبون الكرة. والعادة في مثل ذلك أن تنشأ نسخة كتاب من ديوان الإنشاء الشريف، ويكتب بها إلى جميع النيابات، ولا يختلف فيها سوى صدرها، بحسب ما تقتضيه حال ذلك النائب.
وهذه نسخة مثال شريف في معنى ذلك، كتب في ذي القعدة سنة ستين وسبعمائة لنائب طرابلس، وصورته بعد الصدر: ولا زال تحمل إيه أنباء ما يبرد غلته من مضاعفة السرور، وتبث له أقوال الهناء بما يجب علته من النصر الموفور، ونخصه من إقبالنا الشريف بأكمل تكريم وأنم حبور.
صدرت هذه المكاتبة تهدي إليه من السلام والثناء كذا وكذا، وتوضح لعلمه الكريم أننا نتحقق مضاء عزائمه حرباً وسلماً، واعتلاء هممه التي تحرس بها الممالك وتحمى، وأن صوافنه ترتبط لتركض، وتحبس لتنهض، فلذلك نعلمه من أنباء استظهارنا ما يبهج خاطره، ويقر ناظره، وهو أننا لما كان يوم السبت المبارك خامس شوال، توجه ركابنا الشريف إلى الميدان السعيد وفاض به جنودنا فاخضرت مروجه، وظهر به نيرنا الأعظم فأشرقت آفاقه وتشرفت بروجه، وأقر العيون منير وجهنا المبارك وبهيجه، وغدا كل ولي بموالاة إنعامنا مشمولاً، وبمنالات إكرامنا موصولاً، وركض الأولياء بين أيدينا جياداً ألفت نزالاً وعرفت طراداً، وانعطفت ليناً وانفياداً، وعدنا إلى مستقر ملكنا الشريف وقد جدد الله تعالى لنا إسعاداً، وأيد لعزمنا المعان مبدأ ومعاداً، وآثرنا إعلام الجناب العالي بهذه الوجهة الميمونة، والحركة التي هي بالبركة مقرونة، ليأخذ حظه من السرور بذلك والهنا، ويتحقق من إقبالنا الشريف عليه ما يبلغ به المنى.
وهذه نسخة مثال شريف في المعنى، كتب به في العشرين من شعبان، سنة أربع وخمسين وسبعمائة. وصورته على الصدر: ولا زالت الميادين سعده لا تتناهى إلى مدى، وكرات كراته في رحاب النصر تلمع كنجم الهدى، ومدور صوالجه كشواجر المران تحلو بتأييدها للأولياء وتغدو مريرة للعدا.
صدرت هذه المكاتبة وظفرها لا يزال مؤيداً، ونصرها لا برح مؤبداً، تهدي إليه سلاماً مؤكداً، وثناء كنشر الأرض بالندى، وتوضح لعلمه أننا لم نزل بحمد الله نتبع سنن سلفنا الشريف، ونجري الأمور على عوائد جميلهم المنيف، ونرى تمرين الأولياء على ممارسة الحروب، ونؤثر إبقاء آثار الجهاد فيهم على أحسن أسلوب، فلذلك لا نخل في كل عام بالتعاهد إلى الميدان السعيد، والركوب إليه في أسعد طالع يبديء النصر ويعيده، لما في ذلك من ابتهاج يتجدد، وأسباب مسرة لكافة الأنام تتأكد، ودعوات ألسنتها تتضاعف من الرعية وتتردد.
ولما كان في يوم السبت المبارك سادس عشر شهر رجب الفرد، ركبنا إلى الميدان السعيد في أتم وقت أخذ من السعد بمجموعه، وأظهر في أفق العساكر من وجهنا الشريف البدر عند طلوعه، ولم نبرح يومنا المذكور في عطاء نجيده، وإنعام نفيده، وإطلاق نبدئه ونعيده، والأولياء من أيدينا الشريفة يمرحون، وفي بحار كرمنا المنيف يسبحون، وفي ميدان تأييدنا المطيف يسيحون، والكرات كالشمس تجنح تارة وتغيب، وتخشى من وقع الصوالجة فتقابلها بوجه مصفر مريب. ثم عدنا إلى القلعة المنصورة على أتم حال، وأسعد طالع بلغ الأنام الأمان والآمال، والعساكر بخدمتنا الشريفة محدقون، ومماليكنا بعقود ولائنا مطوقون، والرعايا قد ألبسها السرور أثواباً، وفتح لها من الابتهاج أبواباً، وقد آثرنا إعلام الجناب بذلك ليأخذ حظه من هذه المسرة والبشرى، ويشترك هو والأنام في هذه النعمة الكبرى، ومرسومنا للجناب أن يتقدم بالركوب بمن عنده من الأمراء في ميدان طرابلس المحروسة، ويلعب بالكرة على جاري العادة في ذلك، ليساهم أولياء دولتنا القاهرة في ذلك، ويسلك طرقهم الجميلة أجمل المسالك. قلت: وهذا الصنف من المكاتبات السلطانية لم يزل مستعملاً بديوان الإنشاء، يكتب كلما ركب السلطان إلى الميدان الصالحي بخط اللوق، إلى أن عطل جيده من الركوب في أواخر الدولة الظاهرية برقوق واقتصر على لعب الكرة في الميدان الذي جرت به العادة، فتركت المكاتبة بذلك من ديوان الإنشاء ورفض استعمالها.
الصنف الثامن عشر: المكاتبة بالبشارة بحج الخليفة:
لما كانت الأسفار، محل الأخطار، وموقع الاختلاف وحدوث الفتن، كانت الخلفاء يكتبون الكتب إلى عمالهم بالسلامة عند الإياب من السفر للحج وغيره. والرسم فيها أن يذكر أن الحج من أجل العبادات، وأن النعمة أن يمن الله تعالى بقضاء المناسك، والوقوف المشعر الحرام، والطواف بالبيت العتيق، والسعي بين الصفا والمروة، وما يجري مجرى ذلك من شعائر الحج، ثم بعد زيارة النبي صلى الله عليه وسلم، واتفاق الكلمة في جميع هذه الأحوال، على كثرة الخلائق ومزيد الجيوش والعساكر.
وهذه نسخة كتاب بالسلامة من سفر الحج، وهي: الحمد لله الذي جعل بيته مثابة للناس وأمناً، وحرماً من دخله كان آمناً، الذي اختار دين الإسلام على الأديان، وابتعث به صفوته من الإنس والجان، محمداً أكرم بني معد بن عدنان.
يحمده أمير المؤمنين أن أعانه على تأدية حقه، ونصبه لكفالة خلقه، ووفقه للعمل بما يرضيه ويدني إليه، ويسأله أن يصلي على خير من غار وأنجد، وصدر وورد، وركع وسجد، ووحد ومجد، وصلى وعبد، وحل وأحرم، وحج الحرم، وأتى المستجار والملتزم، والحطيم وزمزم، محمد سيد ولد آدم، وعلى أخيه وابن عمه مصباح الدلالة، وحجاب الرسالة، وإمام الأمة، وباب الحكمة، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ممزق الكتائب، ومفرق المواكب، ومحطم القواضب في القلل والمناكب، وعلى الأئمة من ذريتهما الهادين، صلاة باقية في العالمين.
وإن أولى النعم بأن يستعذب ذكرها، ويستعطر نشرها، وتتحدث بها الألسنة، وتعد في مواهب الله الحسنة، نعم الله تعالى في التوفيق لحج بيته الذي جعله مثابة لزائريه، والإطافة بحرمه الذي يوجب المغفرة لقاصديه، والنزول بأفنيته التي من يخدم بها فقد انسلخ من السيئات، وتلبس بالحسنات، وكتاب أمير المؤمنين هذا إليك يوم النفر الأول، وقد قضى بحمد الله تفثه، ووفى نذره، وتمم حجته، وكمل طوافه، وشهد منافعه، وأدى مناسكه، ووقف الموقف بين يدي ربه قانتاً داعياً، وراغباً راجياً، وعرفه بعرفات إعلامه قبل سعيه، وإجابة تلبيته، وبلغه في منى أمانيه من رأفته، وأراه من مخايل الرحمة، ودلائل المغفرة، ما تلألأت أنواره، وتوضحت آثاره وأجراه على تفصيل العبارة في شمول السلامة لكل من حج بحجه، ووقف موقفه من أوليائه وخاصته، وعامته ورعيته، وأنعم باتفاق كلمتهم، واجتماع أهويتهم، واكتناف الدعة والسكون لهم، وزوال الاختلاف والمباينة بينهم.
فإن أراد زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وهو يصدر بإذن الله تعالى عن موقفه هذا من البيت الحرام، إلى زيارة قبر النبي عليه السلام. فإن أزمع الانكفاء إلى مقره، قال: وأشعرك أمير المؤمنين ذلك وهو عائد بمشيئة الله تعالى إلى مقر خلافته، في عز من قدرته، وعلو من كلمته، وامتداد من سلطانه، وتضاعف من جنده وأعوانه، لتأخذ بحظك من الابتهاج والجذل، وتذيعه بين أهل العمل، ليشاركك العامة في العلم بهذه النعمة فيخلصوا لله الشكر عليها، ويرغبوا إليه في الزيادة منها، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة كتاب بسلامة الخليفة من سفر في الجملة. والرسم فيه أن يذكر نعمة الله تعالى بما منح أمير المؤمنين في سفره ذلك، من بلوغ المآرب، وتسهيل المقاصد، وإدراك الأوطار، وشمول النعمة في الذهاب والإياب، وما يجري مجرى ذلك مما ينخرط في هذا السلك، وهذه نسخته: الحمد لله ذي الطول والإنعام، والفضل والإكرام، والمنن العظام، والأيادي الجسام، الذي أرعى أمير المؤمنين من حياطته عيناً لا تنام، واستخدم لحراسته والمراماة دونه الليالي والأيام، وقضى له بالتوفيق والسعادة في الظعن والمقام. يحمده أمير المؤمنين أن استخلصه لإمامة الأنام، وعدق به أساليب النقض والإبرام، ويسأله الصلاة على من اختصه بشرف المقام، وابتعثه بدين الإسلام، وجلا به حنادس الظلام، محمد خاتم الأنبياء الكرام وعلى أخيه وابن عمه الهمام الضرغام، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مكسر الأصنام، وعلى الأئمة من ذريتهما أعلام الأحكام، وأدلة الحلال والحرام.
وإن أمير المؤمنين لا يزال يتحدث بنعم الله مستدراً لأخلافها، منتصباً لقطافها، ويفيض في ذكرها، مستدعياً للزيادة بشكرها، ويطلع خلصاءه على حسن آثارها لديه، وسبوغ ملابسها عليه، ليأخذوا بحظ من الغبطة والاستبشار، ويسرحوا في مسارح المباهج والمسار، وكتاب أمير المؤمنين هذا إليك حين استقر ركابه بناحية كذا، مبشراً لك نعمة الله في حياطته، وموهبته في سلامته، وما أولاه من إنارة الدليل، وتسهيل السبيل، وطي المجاهل، وتقريب المنازل، وإعذاب المناهل، وإنالة الأوطار، وتدميث الأوعار، وبركة المتصرف، وسعادة المنصرف، ووصوله إلى مقصده قرير العين، قليل الأين، محفوظاً سارياً وآئباً، مكلوءاً عائداً وذاهباً، مشرد النصب مسروراً، موفوراً النصيب محبوراً، في اجتماع من كلمة أوليائه على طاعته، ونفوذ بصائرهم في نصر رايته، وإعانته على ما استحفظه من عباده، واسترعاه من بلاده: ليأخذ بالحظ الأجزل، من الابتهاج والجذل، ويشكر الله تعالى على هذه النعمة المتجددة، ويضيفها إلى سوالف نعمه التالده، ويذيعها بين رعيته، وأنصار دعوته، ليشتركوا في ارتشاف لعابها، والتحاف أثوابها، فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى. قلت: وهذا الصنف من المكاتبات السلطانية قليل الوقوع، فإن وقع مثله للكاتب في زماننا، خرجه على نسبة الأسلوب المتقدم.
الصنف التاسع عشر: الكتابة بالإنعام بالتشاريف والخلع:
وهذا الصنف مما أغفله صاحب مواد البيان ولا بد منه. والرسم فيه أن يكتب عن الخليفة أو السلطان إلى من أخلص في الطاعة، أو ظهرت له آثار كفاية، كفتح أو كسر عدو، وما يجري مجرى ذلك.
وهذه نسخة كتاب كتب به أبو إسحاق الصابي عن الطائع لله، إلى صمصام الدولة بن عضد الدولة بن بويه، قرين خلعة وفرسين بمركبين من ذهب وسيف وطوق، وهي: من عبد الله الكريم الإمام الطائع لله أمير المؤمنين، إلى صمصام الدولة وشمس الملة أبي كاليجار بن عضد الدولة وتاج الملة مولى أمير المؤمنين. سلام عليك، فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلي على جده محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد- أطال الله بقاءك- فإن أمير المؤمنين وإن كان قد بوأك المنزلة العليا، وأنالك من أثرته الغاية القصوى، وجعل لك ما كان لأبيك عضد الدولة وتاج الملة- رحمة الله عليه- من القدر المحل، والموضع الأرفع الأجل، فإنه يوجب لك عند كل أثر يكون منك في الخدمة، ومقام حمد تقومه في حماية البيضة، وإنعام يظاهره، وإكراماً يتابعه ويواتره. والله يزيدك من توفيقه وتسديده، ويمدك بمعونته وتأييده، ويخير لأمير المؤمنين فيما رأيه مستمر عليه من مزيدك وتمكينك، والإبقاء بك وتعظيمك، وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب.
وقد عرفت- أدام الله عزك- ما كان من أمر كردويه كافر نعمة أمير المؤمنين ونعمتك، وجاحد صنيعته وصنيعتك في الوثبة التي وثبها، والكبيرة التي ارتكبها، وتقديره أن ينتهز الفرصة التي لم يمكنه الله منها، بل كان من وراء ذلك دفعه ورده عنها، ومعالجتك إياه الحرب التي أصلاه الله نارها، وقنعه عارها وشنارها، حتى انهزم والأوغاد الذين شركوه في إثارة الفتنة، على أقبح أحوال الذلة والقلة، بعد القتل الذريع، والإثخان الوجيع. فالحمد لله على هذه النعمة التي جل موقعها، وبان على الخاصة والعامة أثرها، ولزم أمير المؤمنين خصوصاً والمسلمين عموماً نشرها والحديث بها، وهو المسؤول إقامتها وإدامتها برحمته.
وقد رأى أمير المؤمنين أن يجازيك عن هذا الفتح العظيم، والمقام المجيد الكريم، بخلع تامة، ودابتين بمركبين، من ذهب مراكبه، وسيف وطوق وسوار مرصع، فتلق ذلك بشكر الله تعالى عليه، والاعتداد بنعمته فيه، وألبس خلع أمير المؤمنين وتكرمته، وسر من بابه على حملاته، وأظهر ما حباك به أهل حضرته، ليعز الله بذلك وليه ووليك، ويذل عدوه وعدوك، إن شاء الله تعالى، والسلام عليك ورحمته وبركاته. وكتب فلان لثمان بقين من شهر ربيع الأول سنة خمس وسبعين وثلثمائة، أطال الله بقاءك وأدام عزك، وأجزل حفظك وحياطتك، وأمتع أمير المؤمنين بك وبالنعمة فيك وعندك.
قلت: وهذا الصنف من المكاتبات السلطانية باق على الاستعمال، متى أنعم السلطان على نائب سلطنةٍ أو أميرٍ أو وزيرٍ أو غيره بخلعة بعث بها إليه وكتب قرينها مثال شريف بذكر ذلك، إلا أنه أهمل في ذلك السجع والازدواج، واقتصر فيه على الكلام المحلول كما في غيره من المكاتبات، إلا في النادر المعتنى بشأنه.
الصنف العشرون: المكاتبة بالتنويه والتلقيب:
قال في مواد البيان: جرت عادة الخلفاء بالكتابة بالتلقيب، لأن اللقب موهبة من مواهب الإمام، أمضاها وأجازها، فإذا جرت عليه كانت كغيره من نعمة التي يمنحها على عبيده، والكنية تكرمة يستعملها الناس فيما بينهم، فليس حكمها كحكم اللقب. قال: والرسم في هذه الكتب أن تفتتح بحمد الله على نعمه السابغة الضافية، ومواهبه الزاهية النأمية، وعوارفه التي جعلها جزاء للمحسنين، وزيادة للشاكرين، ونحو هذا مما يليق أن يفتتح به هذا الغرض، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. ثم يقال:
وإن أمير المؤمنين بما خوله الله تعالى من نعمه، وبوأه من قسمه، وخصه به من التمكين في أرضه، والمعونة على القيام بفرضه، يرى المن على خلصائه، وإسباغ النعم على أوليائه، واختصاصهم بالنصيب الأوفر من حبائه، والإمالة بهم إلى المنازل الباذخة، والرتب الشامخة، وإن أحق من وفر قسمه من مواهبه، وغزر سهمه من عطاياه ورغائبه، من تميز بما تميزت به من إخلاص ومطاوعة، وولاءٍ ومشايعةٍ، وانقيادٍ ومتابعةٍ، وصفاء عقيدة وسريرة، وحسن مذهبٍ وسيرة، ولذلك رأى أمير المؤمنين أن ينعتك بكذا لاشتياقه هذا النعت من سماتك، واستنباطه إياه من صفاتك، وشرفك من ملابسه بكذا، وطوقك بطوق أو بعقد وقلدك بسيف من سيوفه، وعقد لك لواء من ألويته، وحملك على كذا من خيله وكذا من مراكبه. ويحسن الوصف في كل نوع من هذه الأنواع واشتقاق الألفاظ من معانيه، يعرب عن قدر الموهبة فيه. ثم يقال: إبانةً لك عن مكانك من حضرته، وإثابةً على تشميرك في خدمته، فالبس تشريفه وتطوق، وتقلد ما قلدك به، واركب حمولاته، وابرز للخاصة والعامة في ملابس نعمائه، وارفل في حلل آلائه، وزين موكبك بلوائه، قل: رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وأعني على ما يسترهنها لدي، وخاطب أمير المؤمنين متلقباً بسمتك متنعتاً بنعتك.
وهذه نسخة مكاتبة إلى الأفضل بن ولخشي، وزير الحافظ لدين الله الفاطمي، أحد خلفاء الفاطميين بالديار المصرية، حين قرر الحافظ نعوته: السيد، الأجل، الأفضل، أمير الجيوش، سيف الإسلام، ناصر الأنام، كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين، وهي: أما بعد فالحمد لله الذي تفرد بالإلهية، وتوحد بالقدم والأزلية، وأبدع من برأ وخلق، وأنشأهم من غير مثال مسبق، واصطفى لتدابيرهم في أرضه من بعثه برسالته، وجعل ما جاءوا به من الشرائع من أمارة لطفه بهم ودلالته، وصلى الله على جدنا محمد رسوله الذي جعل رتبته أخيراً ونبوته أولى فكان أفضل من تقدمه نبياً وسبقه رسولاً، وعلى أخيه وابن عمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي ذخره لخلافته، وأيده بوزارته، مع كونه منزلة الاصطفاء، وتأييد الوحي الظاهر من غير خفاء، بحيث لا يفتقر إلى وزير، ولا يحتاج إلى ظهير، وإنما جعل ذلك تعليماً لمن يستخلفه في الأرض من عباده، وتمثيلاً نص- جل وعز- إلى قصده واعتماده، لما فيه من ضم النشر، وصلاح البشر، وشمول المنافع، وعموم الخيرات التي أمن فيها مدافع، وعلى الأئمة من ذريتهما العاملين بمرضاته، والمتقين له حق تقاته، والكافلين له مؤمن بأمانه يوم الفزع الأكبر ونجاته، وسلم عليهم أجمعين، سلاماً متصلاً إلى يوم الدين.
والحمد لله الذي جعل النعم التي أسبغها على أمير المؤمنين، بحسب ما اختصه به من منزلته التي فضله بها على جميع العالمين، فجعله خليفةً في الأرض، والشفيع لمن شايعه يوم الحساب والعرض، وأجزل له من مننه ما لا يناهضه شكرٌ إلا كان طالعاً، ولا يقابله اعتدادٌ إلا استولى عليه العجز فلم يكن بما يجب له طامعاً، وإن من أرفعها مكاناً، وأعظمها شاناً، وأفخمها قدراً، وأنبهها ذكراً، وأعمها نفعاً، وأحسنها صنعاً، وأغزرها مادة، وأثبتها قاعدة إذا غدت النعم شاردةً نادة، وأعودها فائدةص على الخاص والعام، وأضمنها للسعد المساعد والحظ الوافر التام- ما كان من المنة الشامخة الذرى، والمنحة الشاملة لجميع الورى، والعارفة التي اعترف بها التوحيد والإسلام، والموهبة التي إذا أنفق كل أحدٍ عمره في وصفها وشكرها فما يعذل ولا يلام، والآية التي أظهرها الله للملة الحنيفية على فترة من الرسل، والمعجزة التي هدى أهله لها دون كافة الأمة إلى أعدل السبل، والبرهان الذي خص به أمير المؤمنين وأظهره في دولته، والفضيلة التي أبانت مكانة من الله وكريم منزلته، وذلك ما من الله به على الشريعة الهادية، والكلمة الباقية، والخلافة النبوية، والإمامة الحافظية، منك أيها السيد الأجل الأفضل، ولقد طال قدرك في حلل الثناء، وجل استحقاقك عن كل عوض وجزاء، وغدت أوصافك مسألة اجتماع وائتلاف، فلو كانت مقالة لم يقع بين أرباب الملل شيء من التناقض فيها والاختلاف، وأين يبلغ أمد استجابك من منتحيه، أو يتسهل إدراك شأوه على مطالبه ومبتغيه؟ والإيمان لو تجسم لكان على السعي على شكرك أعظم مثابر، والإسلام لو أمكنه النطق لقام بالدعاء لك خطيباً على المنابر، فأما الشرك فلو أبقيته حياً لتصدى وتعرض، لكنك أنحيت عليه وأدلت التوحيد منه فانهد بناؤه بحمد الله وتقوض، فكان لك في حق الله العضب الذي تقربت به إليه فأرضيته، والعزم الذي صممت عليه في نصرة الحق فأمضيته، والباطن الذي اطلع عليه منك فنصرك ولم ترق دماً، ولا ورعت مسلماً، ولا أقلقت أحداً ولا أزعجته، ولا عدلت عن منهج صواب لما انتهجته، وذلك مما اشترك الكافة في معرفته، وتساووا في علم حقيقته، مع من كان من تسييرك العساكر المظفرة صحبة أخيك الأجل الأوحد، أدام الله به الإمتاع وعضده، وأحسن عنه الدفاع وأيده مما جرت الحال فيه بحسن سياستك، وفضل سيادتك، على أفضل ما عودك الله من بلوغ آمالك، من غير أذى لحق أحداً من رجالك، والأمر في ذلك أشهر من الإيضاح، وأبين من ضياء فلق الصباح، وهذا إذا تأمله أمير المؤمنين أوجب عليه أن يقابلك من إحسانه، بغاية ما في إمكانه، وأن يوليك من منته، أقصى ما في استطاعته وقدرته، ولم ير أحضر من أن قرر نعوتك السيد، الأجل، الأفضل، أمير الجيوش، سيف الإسلام، ناصر الأنام، كاف قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين، أبو الفتح رضوان الحافظي، إذ لا أولى منك بكفالة قضاة دولته وإرشادهم، وهداية دعاتها إلى ما فيه نجاة المستجيبين في معادهم، وجدد لك ما كان قدمه من تكفيلك أمر مملكته، وإعادة القول فيما أسلفه من رده إليك تدبير ما وراء سرير خلافته التذاذاً بتكرار ذلك وترديده، وابتهاجاً بيطرية ذكره وتجديده، فأمور الملة والدولة معدوقة بتدبيرك، وأحوال الأداني والأقاصي موكولة إلى تقريرك، وقد جمع لك أمير المؤمنين من استخدام الأقلام، وجعل السيادة لك على سائر القضاة والدعاة والحكام، وأسجل لك بالاختصاص بالمعالي والانفراد، والتوحد بأنواع الرياسات والاستبداد، ولك الإبرام والنقض، والرفع والخفض، والولاية والعزل، والتقديم والتأخير، والتنويه والتأمير، فالمقدم من قدمته والمحمود من حمدته، والمؤخر من أخرته، والمذموم من ذممته، فلا مخالفة لما أحببته، ولا معدلة عما أردته، ولا تجاوز لما حددته، ولا خروج عما دبرته، وأين ذلك مما يضمره لك أمير المؤمنين وينوه، ويعتقده فيك فلا يزال مدى الدهر يعيده ويبديه؟ ولو لم يكن من بركاتك على دولة أمير المؤمنين، ويمن تدبيرك العائد على الإسلام والمسلمين، إلا أن أول عسكر جهزته إلى جهاد الكفرة الملاعين، وكان له النصر العزيز الذي تبلج فجره، والفتح المبين الذي جل قدره وانتشر ذكره، والظفر المبهج للدين العسكر المنصور على الطائفة الكافرة، قتلاً لأبطالها وأسراً لأعناق رجالها، وأخذاً لقلاع الملسرة منها، وأنه لم يفلت من جماعتها إلا من يخبر عنها، ولو علم أمير المؤمنين تعظيماً يخرج عما تضمنه هذا السجل لما اقتصر عليه، إلا أنه عاجله ما يسره فجاهر لك بما هو مستقر لديه، والله عز وجل يخدمك السعود، ويخصك من مواهبه بما يتجاوز المعهود، ويمدك بمواد التوفيق والتأييد، ويقضي لك في كل الأمور بما لا موضع فيه للمزيد، إن شاء الله تعالى، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. ها، وأنه لم يفلت من جماعتها إلا من يخبر عنها، ولو علم أمير المؤمنين تعظيماً يخرج عما تضمنه هذا السجل لما اقتصر عليه، إلا أنه عاجله ما يسره فجاهر لك بما هو مستقر لديه، والله عز وجل يخدمك السعود، ويخصك من مواهبه بما يتجاوز المعهود، ويمدك بمواد التوفيق والتأييد، ويقضي لك في كل الأمور بما لا موضع فيه للمزيد، إن شاء الله تعالى، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
قلت: وهذا الصنف من الكتب السلطانية قد رفض وترك استعماله في زماننا فلا معول عليه أصلاً.
الصنف الحادي والعشرون: المكاتبة بالإحماد والإذمام:
قال في مواد البيان: السلطان محتاج إلى مكاتبة من يقف منه على طاعة واجتهاد، ومناصحةٍ وإخلاص، بالشكر والإحماد، والبعث على الازدياد من المخالصة وحسن السعي في الخدمة وغيرها، مما يرتبط به النعمة، ويستوجب معه حفظ الرتبة، ومكاتبة من يعثر منه على تقصير وتضجيع، وتفريط وتضييع بالذم والتقريع والتأنيب، لأنه لا يخلو أعوان السلطان من كفاة يستديم كفايتهم بتصويب مراميهم، واستحسان مساعيهم، وإحمادهم على تشميرهم، وشرح صدورهم ببسط آمالهم، والعدة برفع منازلهم ومحالهم، وتمييزهم على نظرائهم وأشكالهم، وتحذيرهم من التوبيخ وتقديم الأعذار، والتخويف من سقوط المراتب، وقبح المصاير والعواقب.
قال: وينبغي للكاتب أن ينتهي في خطاب من انتهى في الحالين إلى غايتيهما، إلى المعاني الناجمة في الغرضين، ويتوسط فيهما سيما التوسط الذي يقتضيه الحال المفاض فيها، لأن في ذلك تقديراً للمحسن على إحسانه، ونقلاً للمسيء عن إساءته، لأنه إذا علم الناهض أنه مثاب على نهضته، والواني أنه معاقب على ونيته اجتهد هذا في الاستظهار بخدمته بما يزيد في رتبته، وخاف هذا من حط منزلته وتغير حالته، ثم قال: والرسوم في هذه المكاتبات تختلف بحسب اختلاف أغراضها، وتتشعب بتشعب معانيها، والأمير في ذلك موكول إلى نظر الكاتب العارف الكامل، ووضعه كل شيء في موضعه، وترتيبه إياه في مرتبته.
فأما المكاتبة بالإحماد، فكما كتب عن صمصام الدولة بن عضد الدولة بن بويه، إلى حاجب الحجاب أبي القاسم سعد بن محمد وهو مقيم بنصيبين على محاربة باد الكردي: كتابنا، ووصل كتابك مؤرخاً بيوم كذا تذكر فيه ما جرى عليه أمرك في الخدمة التي نيطت بكفايتك وغنائك، ووكلت إلى تدبيرك ووفائك، من رد باد الكردي عن الأعمال التي تطرقها، وحدث نفسه بالتغلب عليها، وتصرفك في ذلك على موجبات الأوقات، والتردد بين أخينا وعدتنا أبي حرب، زياد بن شهراكويه وبينك من المكاتبات، وحسن بلائك في تحيفه، ومقاماتك في حص جناحه، وآثارك في الانقضاض على فريقٍ بعد فريق من أصحابه، واضطرارك إياه بذلك وبضروب الرياضات التي استعملتها، والسياسات التي سست أمره بها، إلى أن نزل عن وعورة المعصية إلى سهولة الطاعة، وانصرف عن مجاهل الغواية إلى معالم الهداية، وتراجع عن السوم إلى الاقتصار، وعن السرف إلى الاقتصاد، وعن الإباء إلى الانقياد، وعن الاعتياص إلى الإذعان، وأن الأمر استقر على أن قبلت منه الإنابة، وبذلت له فيما طلب الاستجابة، واستعيد إلى الطاعة، واستضيف إلى الجماعة، وتصرف على أحكام الخدمة وجرى مجرى من تضمه الجملة، وأخذت عليه بذلك العهود المستحكمة، والأيمان المغلظة، وجددت له الولاية على الأعمال التي دخلت في تقليده وضربت عليها حدوده، وفهمناه.
وقد كانت كتب أخينا وعدتنا أبي حربٍ زياد بن شهراكويه مولى أمير المؤمنين ترد علينا، وتصل إلينا، مشتملة على كتبك إليه، ومطالعاتك إياه، فنعرف من ذلك حسن أثرك وحزم رأيك، وسداد قولك، وصواب اعتمادك، ووقوع مضاربك في مفاصلها، وإصابة مراميك أغراضها، وما عدوت من مذاهبك كلها، ومتقلباتك بأسرها، المطابقة لإيثارنا، والموافقة لما أمرت به عنا، ولا خلت كتب أخينا وعدتنا أبي حرب من شكرٍ لسعيك، وإحماد لأثرك، وثناء جميل عليك، وتلويح وإفصاح بالمناصحة الحقيقية بك، والموالاة اللازمة لك، والوفاء الذي لا يستغرب منه مثلك، ولا يستكثر ممن حل في المعرفة محلك، ولئن كنت قصدت في كل نهج استمررت عليه، ومعدلٍ عدلت إليه، مكافحة هذا الرجل ومراغمته، ومصابرته ومنازلته، والتماس الظهور عليه في جميع ما تراجعتماه من قول، وتنازعتماه من حد، فقد اجتمع لك إلى إحمادنا إياك، وارتضائنا ما كان منك، المنة عليه إذ سكنت جأشه، وأزلت استيحاشه، واستللته من دنس لباس المخالفة، وكسوته حسن شعار الطاعة، وأطلت يده بالولاية، وبسطت لسانه بالحجة، وأوفيت به على مراتب نظرائه، ومنازل قرنائه، حتى هأبوه هيبة الولاة، وارتفع بينهم عن مطارح العصاة.
فالحمد لله على أن جعلك عندنا محموداً، وعند أخينا وعدتنا أبي حرب مشكوراً، وعلى هذا الرجل ماناً، وفي إصلاح ما أصلحت من الأمر مثاباً مأجوراً، وإياه نسأل أن يجري علينا عادته الجارية في إظهار آياتنا، ونصرة أوليائنا، والحكم لنا على أعدائنا، وإنزالهم على إرادتنا، طوعاً أو كرهاً، وسلماً أو حرباً، فلا يخلو أحد منهم من أن تحيط لنا بعنقه ربقة أسر، أو منة عفو، إنه جل ثناؤه بذلك جدير، وعليه قدير.
ويجب أن تنفذ إلى حضرتنا الوثيقة المكتتبة على باد الكردي إن كنت لم تنفذها إلى أوان وصول هذا الكتاب، لتكون في خزائننا محفوظة، وفي دواويننا منسوخة، وأن تتصرف في أمر رسله وفي بقية- إن كانت بقيت من أمره- على ما يرسمه لك عنا أخونا وعدتنا أبو حرب، فرأيك في العمل على ذلك، وعلى مطالعتنا بأخبارك وأحوالك، وما يحتاج إلى علمه من جهتك، موفقاً إن شاء الله تعالى.
وأما الإذمام فيختلف الحال فيه باختلاف الملوم فيه والمذموم بسببه. فمن ذلك الذم على ترك الطاعة وشق العصا.
كما كتب عمارة يصف شخصاً بأنه لما ارتفع مكانه، وعلا قدره، بطر معيشته، وخرج عن طاعة الخليفة، وأن فلاناً كان ممن عرفت حاله، في غموض أمره، وخمول ذكره، وضيق معيشته، وقلة عدده وناهضيه، ولا يتجاوز حياته ما يقوله، ولا يتعاطى ما وراء ذلك ولا يرومه، ولا يمنيه نفسه، ولا يدفع يد لامس عنه بقوة تنوء بملأ، ولا عز يلجأ إليه، فأنعم عليه أمير المؤمنين وأكرمه وشرفه، وبلغ به الغاية التي لم يكن يرجوها ولا ترجى له، وبسط له من الدنيا، وآتاه من غضارتها ونعيمها، وعزها وسلطانها، ما لم يؤت أحداً من أهل زمانه، فلما مكن الله له في الدنيا طغى وتجبر، وعلا وتكبر، وظن أن الذي كان فيه شيء قاده إلى نفسه بحوله وقوته، وتهويلاً من الشيطان واستدراجاً منه له. وكما كتب عبد الحميد في مثله: أما بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين عنك أمر لم يحتمله لك، إلا ما أحب من رب صنيعته قبلك، واستتمام معرفته إليك، وكان أمير المؤمنين أحق من أصلح ما فسد منك، وإنك إن عدت لمثل مقالتك، وما بلغ أمير المؤمنين عنك، رأى في معالجتك رأيه، فإن النعمة إذا طالت بالبعد ممتدة أبطرته، فأساء حمل الكرامة، واستثقل العافية، ونسب ما هو فيه إلى حيلته، وحسن نبته ورهطه وعشيرته، وإذا نزلت به الغير، وانكشفت عماية العشي عنه، ذل منقاداً، وندم حسيراً، وتمكن منه عدوه، قادراً عليه، وقاهراً له، ولو أراد أمير المؤمنين مكافأتك بلفظك، ومعاجلة إفسادك، جمع بينه وبين من شهد فلتات خطئك وعظيم زلتك، ولعمري لو حأول أمير المؤمنين مكافأتك بلفظك في مجلسك، وجحودك فضله عليك، لردك إلى ما كنت عليه، ولكنت مستحقاً.
وفي مثله: فإن صاحب البريد كتب إلي عن أصحابك بكذا، فقلت: إنهم لم يقدموا على ما أقدموا عليه حتى عجموك، فعرفوا خور عودك، وضعف مكسرك ومهانة نفسك، وأنه لا غير عندك ولا نكير.
ومن ذلك الذم على الخطأ، كما كتب أحمد بن يوسف:
كأن البخل والشؤم صارا معاً في سهمه، وكانا قبل ذلك في قسمه، فحازهما لوارثه، واستحق ما أستملك منهما بالشفعة، وأشهد على حيازتهما أهل الدين والأمانة حتى خلصا له من كل ممانع، وسلما له من تبعة كل منازع، فهو لا يصيب إلا مخطئاً، ولا يحسن إلا ناسياً، ولا ينفق إلا كارهاً، ولا ينصف إلا صاغراً.
قلت: وهذا الصنف من المكاتبات السلطانية لا يمنع وقوعه في وقت من الأوقات، فإن عرض له موجب، راعى الكاتب فيه صورة الحال، وكتب على ما يوجبه المقام، وتقتضيه الوقعة.
الصنف الثاني والعشرون ما يكتب مع الإنعام لنواب السلطنة بالخيل والجوارح وغيرها من أنواع الإنعامات وهذا الصنف من المستعمل في زماننا كل وقت فأما ما يكتب مع الإنعام بالخيل، فقد جرت العادة أن السلطان ينعم بالخيل على نواب السلطنة بالشام، ويكتب بذلك مثالات شريفة إليهم، وربما أنعم بالخيل وكتب بها في غير ذلك. وهذه نسخة مثال شريف من ذلك: ضاعف الله تعالى نعمة الجناب وخصه من النعم بما لا تحصى له آثار، ولا يتعلق له بغبار، ولا يوصف بحال واحدة، لأنه إن جرى فبحر، وإن وقف فنار.
صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي بكل سلام لا تدرك لسوابقه غاية، ولا تحصى له نهاية، ولا يرد منه كل ما جاء وله في وجهه كفلق الصبح آية، ولا يتقدم في ميدان إلا وقد حمل له في كل مكان راية. وتوضح لعلمه الكريم أنه قد جهز له قرينها ما جرت به عادته من الحصن التي لا يدعي البرق أن لها نظير، ولا تجاري الرياح من سوابقها ما يطير، كم لها في ميدان مجال، وكم لها في رؤية دوية ارتجال، وكم دعي الوغى بها على كل ضامرٍ فأتت رجالاً تقدح سنابكها ناراً، وتفيض جوانبها من الركض عقاراً، ويتكفل بديعها بكل مرام، ويعطي ما في يديها لأنها من الكرام، وقد تشرفت من نعمنا الشريفة بالسروج واللجم والعدة المكملة، وتحلت من الذهب والفضة ما يغني بجملته المفضلة، وأرسلناها إليه ترقص في أعنتها زهواً، وتترك بطيب صهيلها كل بحر تخوضه إلى المنايا رهواً، وتوجه بها فلان كالعرائس المجلوة في حللها، والنجوم لولا ما تميزت به من حلي عطلها، والسحاب إلا أنها لا تحتاج منة الرياح في تنقلها.
فليقابل هذه النعمة الشريفة بشكرها، وليتسلم هذه الصدقات العميمة التي تعترف كل نعمة بقدرها، وليحمد الله من تفقداتنا الشريفة على كرم فرس جاء وهو سابق، وجود لا يدور معه السحاب في طابق، ويعتمدها لارتقاء كل صهوة منيفة، وجهاد أعداء الله عليها بين أيدينا الشريفة، ويعيد الواصل بها إلى خدمة أبوابنا العالية، والله تعالى يديم عليه بنا النعم المتوالية، إن شاء الله تعالى.
آخر: ولا زال إقبالنا يمده من الصافنات الجياد بما يباري الرياح، ويتيمن بغررها الصباح، ويطلق أعنتها في حلبة السباق فتسبق بركضها ذوات الجناح، ولا برح إنعامنا يتحفه بكل طرف يبهج الطرف، ويثلج الصدر بما استمد عليه من الملاحة التي تروق العين وتفوق الوصف، ويفرده بما اجتمع فيه من الحسن واليمن، إذ هو واحد كالألف، تهدي إليه سلاماً تعبق بطيب نشره أرجاءه، وثناء يعرب عما في ضميره من علو قدره وسمو ذكره فيشرق سناؤه ويضاعف ثناؤه، وتوضح لعلمه الكريم أنه غير خاف عنه ما يصل إلى أبوابنا الشريفة من الخيول البرقية في كل عام، وما نخصه منها لكل ميمون الغرة مبارك الطلعة هنيء السير على الإنعام، وقد أرسلناه إلى جنابه الكريم من ذلك سهمه، وأضفنا إلى ذلك ما استصلحناه من الخيل العربية الغربية والعتاق العجمية العربية، مما الخير معقود بنواصيها، فتزهق على صهواتها نفوس الأعداء وتستنزلها من صياصيها، فيأخذ الجناب العالي ما يخصه من ذلك، ويفرق الباقي على من رسمنا له من بيمن رأيه المبارك الذي لا يساهمه فيه أحد ولا يشارك، ويجهز الخيل المخصوصة بفلان إليه، والله تعالى يضاعف عز ظهورها عند امتطائها لديه.
وأما ما يكتب مع الإنعام بالجوارح فمما يكتب مع إرسال سنقر: وقد بعثنا بسنقر كأنه ملك متوج، ورزق مروج، تجرأ على سفك الدماء، وأبى أن يطلب رزقه إلا من السماء، يود الكركي لو خلص من مخالبيه، ويخاف أن يسلم من خرط الشبكة ويقع في كلاليبه، ويدرك الصيد ولا يؤجله، ويرفع صدره ثم يومي إليه برأسه كأنه يستعجله، قد جمع من المحاسن كل الصنوف، وكتبت عليه أسطر تقرأ بما تقرى به الضيوف.
ومما يكتب مع إرسال صقر: وقد وجهنا إليه بصقر لا تؤسى له من الصيد جراح، ولا يدع من وحش يسرح ولا طائر يطير بجناح، أينما توجه لا يأت إلا بخير، وحيثما أطلق كان حتف الوحش والطير، يدع أقطار الفلاة مجزرة، أو روضة بالدماء مزهرة، يجد إلى الطير في عنقه، ويحلق إلى السماء فيرجع طائره في عنقه، تخافه العفر على نفوسها، وتخضع له ولأمثاله فما يخرج إلا والطير على رؤوسها، يزيد خبره في مظان الصيد على الخبر، وتخرج الظباء وقد تسجت خوفاً منه في ملاءة من العجاج مخيطة من قرونها بالإبر، شديد الأيد، قد بنى على الكسر حروف الصيد، يحمد مقتنيه أيامه الغر، ويقول له إذا تلفت إلى الصيد: إن جلبت ضبعاً فأنت حر، لا يصحب مستصحبه معه إلا مزاده، وأينما سار حامله- وهو معه- كان معه زاده.
ومما يكتب مع إرسال شاهين: وقد وجه إليه حلق وراء الطير شاهت به الوجوه، وشاهدت الآمال به ما ترجوه، قد أصبح كل محلق الجناح رهين يده، وكل سارب من الوحش طعام يومه أو غده، لا يتعبه خلف الطريدة بعد المدى، ولا يرده خوف مسافة ولا يقحم ردى، ريبة عام لم يمتع بطول ما دهر، وممتدة منه في الطلق مثل ريح سليمان غدوها شهر ورواحها شهر.
ومما يكتب مع إرسال كوهية: وقد جهزنا إليه كوهية، هي بالمحاسن حرية، ولكثرة الإقدام جرية، يكل بها صاحبها أمر مطبخه، ويمدها من الطير من ليس بمصرخه، لا نعف عن دم، ولا ترى أطرافها إلا مثمرة بعناب أو مخضبة بعندم، قد أخلت من كل سانح، ولبست زي الراهب المتعبد وفتكت بكل سائح.
ومما يكتب مع سقاوة: وقد جهزنا إليه بقساوة، مخاليبها على الطير كالحديد أو أشد قساوة، تسيل دماء الصيد كالمذانب وتكسو الأرض حبراً من رياش الحبارى وفراء من جلود الأرانب، وجعلت في قبضة الكف ما كانت العين عليه تدور، وتكفلت بكفاية المطبخ وملأت القدور.
ومما يكتب مع إرسال باز: وقد بعثنا بباز مهما لقي لقف، ومهما خطا لديه خطف، كأنما خط جوهره بقلم، أو ريش عليه من الصباح والظلم، قد أعد للطوارق، وادرأ بمثل الطوارق، قد دحض حجج الحجل، وكسرها حتى أبان عليها حمرة الخجل، لا يسأل في الصيد عما نهب، ولا تعرف قيمة إلا أن له عيناً من الذهب.
ومما يكتب مع الفهد: وقد أنعمنا عليه بفهد أهرت الشدق، ظاهر الحذق، بادي العبوس، مدنر الملبوس، شثن البراثن، ذي أنياب كالمدى ومخالبه كالمحاجن، قد أخذ من الفلق والغسق إرهاباً، وتقمص من نجل الحدق جلباباً، يضرب المثل في سرعة وثوب الأجل به وبشبهه، وتكاد الشمس مذ لقبوها بالغزالة لا تطلع من الوجل على وجهه، يسبق إلى الصيد مرامي طرفه، ويفوت لحظ مرسله إليه فلا يستكمل النظر إلا وهو في كفه، وتتقدمه الضواري إلى الوحش فإذا وثب له تعثرت من خلفه.
وأما ما يكتب مع الإنعام بالسلاح: فمن ذلك: وقد جهزنا إليه سيفاً تلمع مخايل النصر من غمده، وتشرق جواهر الفتح في فرنده، وإذا سابق الأجل إلى قبض النفوس، عرف الأجل قدره فوقف عند حده، ومتى جرد على ملك من ملوك العدا وهت عزائمه، وعجز جناح جيشه أن تنهض به قوادمه، وعلم أنه سيفنا الذي على عاتق الملك الأعز نجاده وفي يد حبار السموات قائمه.
الصنف الثالث والعشرون: المكاتبة بالبشارة عن الخليفة بولد رزقه:
والرسم فيها أن يذكر شرف الخلافة وعلو رتبتها، ويشير إلى تخصيص الخلافة بمصيرها إليه دون سائر البرية، وانتقالها إليه بالتوارث من آبائه الطاهرين كابراً عن كابر، وبقائها في عقبه إلى الأبد. ثم يتخلص إلى ذكر النعمة على أمير المؤمنين التي أنعمها الله تعالى عليه، وأن من أعظمها نعمة أن رزقه الله تعالى ولداً، ويذكر اسمه وكنيته، ويصفه بما يناسبه. وهذه نسخة كتاب في معنى ذلك، هي: الحمد لله مؤيد الإسلام بخلفائه الراشدين، ومظهر الإيمان بأوليائه الهادين، الذي جعل الإمامة كلمة باقية فيهم إلى يوم الدين، وأقام منهم الحاضر المتبع، والمرجو المتوقع، وأطلع منهم في سماء الهداية شهباً لا يخبو منها شهاب حتى يتوقد شهاب، وفتح بهم للإرشاد أبواباً، لا يرتح منها باب حتى يفتح باب.
يحمده أمير المؤمنين أن فوض إليه منازل آبائه، ووفقه بانتقال ما ورثه من آبائه إلى أبنائه، ويسأله أن يصلي على من كرمه بولادته وشرفه بالانتساب إلى شجرة سيدنا محمد خاتم رسله، المترجم عن توحيده وعدله، وعلى أخيه وابن عمه علي بن أبي طالب قسيمه في فضله، ووصيه على أمته وأهله.
وإن أولى النعم بأن يفاض في شكرها، وتعطر المحافل بنشرها، نعمة حاطت دعائم الدين، وأمرت حبل المسلمين، وتساوى في تنأول قطافها الكافة، وآذنت بشيوع الرحمة والرأفة، وأضحت النبوة مشرقة الأنوار، والإمامة علية المنار، والخلافة مختالة المنبر والسرير، رافلة في حلل الابتهاج والسرور.
وكتاب أمير المؤمنين هذا إليك، وقد رزقه الله تعالى ولداً ذكراً مباركاً رضياً، سماه فلاناً، وكناه أبا فلان، فجعلا بنهار عرته الدامس، وافتر بمقدمه العابس، واخضر بيمن نقيبته اليابس، ووثقت الآمال بسعادة مقدمه، وتطلعت الأعناق إلى جوده وكرمه، مبشراً لك بهذه النعمى الحسنة الأثر، القليلة الخطر، علماً بمكانك من ولائه ومخالصته، وسرورك بما يفيضه الله عليه من شآبيب نعمته، لتأخذ من المسرة والجذل بحظ المولى المخلص، والعبد المتخصص، ولتشيع مضمون كتابه فيمن قبلك من الأولياء، ليشاركونا في الشكر والثناء، فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله تعالى. قلت: وهذا الصنف من المكاتبات السلطانية مستعمل في البشارة عن السلطان إذا حدث له ولد، فيكتب بالبشارة به إلى نواب السلطنة وأهل المملكة.
الصنف الرابع والعشرون: ما يكتب عن السلطان بالبشارة بعافيته من مرض:
وهذه نسخة كتاب بعافية الملك الناصر محمد بن قلاوون من مرض إلى صاحب ماردين، وهو: ولا زالت البشائر على سمعه الكريم متواترة، والمسار إلى مقام ملكه سائرة، والتهاني، ببلوغ الأماني، من كمال شفائنا تجعل ثغور الثغور باسمة ووجوه الدهور ناضرة، ونعم الله تعالى مقابلة بالشكر الجزيل على أن أجد ملك الإسلام بافتقاده، وأبقي للدين المحمدي ناصره. وأصدرناها إلى المقام العالي ومواردنا من الصحة حلوة في الأفواه، وألسنتنا شاكرة لنعم الله، وعافيتنا تجدد في كل جديد، وصحتنا قد بلغت من المزيد ما نريد، وقد ألبسنا الله تعالى من الشفاء ثوباً قشيباً، ونصرنا نصراً عزيزاً وفتح لنا فتحاً مبيناً، تهدي إليه سلاماً تتأرج به أرجاء ملكه، وثناء تنظيم الأثنية في سلكه، وتوضح لعلمه الكريم ما حصل من عافيتنا التي تضاعف بها فرح الإسلام والمسلمين، ووجب الشكر عليهم والحمد لله رب العالمين.